بخطوات أثقلها الإرهاق والتعب هبطتُ تلك الدرجات المؤدية إلى ذلك العالم السفلي المعروف ضمنيـًا بـ المترو، تزامنـًا مع هبوط دورتي الدموية بعد يوم طويل من الطواف بين الكلية والعمل ثم أخيرًا تلك "الخروجة"، كما يروق لنا تسميتها، وعلي بـُعد خطوات أخري كان على ثلاثتنا الافتراق، حيث سيتخذ ثالثنا من رصيف المرج منطلقا له، بينما نتجه - أنا وهو- إلى رصيف الجيزة.
أخبرته باقتضاب شديد أني "معايا تذكرتي"، فانطلق ولم يعقب فى مِشيَةٍ هي الأقرب إلى الترنح، تشي برغبة صاحبها فى التساكر إن لم يكن بالخمر فبالقراءة تارة وبالشاي أخري، وبكل أصناف الفنون فيما تبقي له من أحيان. تقدمته إلى البوابات المؤدية إلى الرصيف وأخذت أعد العدة للغياب خلال تلك الدقائق التي تفصلنا عن المسكن، مستخدمًا تلك الوسيلة السحرية التى تكفل لى وحدي الاستئثار بالموسيقي الصادرة عن هاتفي المحمول، وتقوم في الوقت نفسه بانتشالي من ذلك العالم السفلي الذي لا يقلّ فى صخبه عن نظيره فى الأعلي، ولم يلبث هو الأخر أن قام بالمثل سابحًا بين صفحات كتابه مبتعدًا عن كل ما يمت بصلة للواقع من حوله.
... هدوء تام يتسيد المكان عقب انتهاء أنغام من تقديم وصلتها الغنائية على ذلك المسرح الافتراضي، ثم يتعالي الصَفِير والتصفيق لانسدال الستار عن جوني كاش الذي يقوم بتحية الجمهور – الافتـراضي أيضا- ثم التعريف عن نفسه كـعادته قبل أن يبدأ، أتسلل خـارجـًا من المـسرح ملقيًا نظـرة خـاطفة على العـالم الأخـر، أعبر تلك المسـافة القصـيرة التى تفصـل فيمـا بيننا لأجـده لايـزال غـائبًا فى دنياه الخــاصة ـرفقة كتابه، أعـود من فـوري إلى المسـرح حيث جوني كـاش يردد " San Quentin, I hate every inch of you" .. أتعجب من وقع اللفظ فى نفسي.
(((((((((("HATE"))))))))))
أتفكر مليـًا، أستعرض لحظاتٍ كُـثر جمعتنا فيها النشوة والطمأنينة، لحظات مزجت بين أرواحٍ تـُركت على سجيتها، أتأمل مقولة العم يحي حقي "ما أجمل تركُ النفس على سجيتها مع إنسان يحمل لك الود ويترك هو أيضا نفسه على سجيتها"، تجري الأفكار مني مجري الغصة فى الحلق، ومهما كان من تجاهلها فلا يشغلني عنها إلاها. أسترق النظر إليه فيبدو غريبا عني، أتعجب من قدرتنا على اقتسام غرفة واحدة للسكن، أعود لتلك الأيام التي سبقت انتقاله من المدينة الجامعية للإقامة معي بعد انتهاء الدراسة، وسعيي الحثيث لذلك، أذكر يوم أخبرني أن بإمكانه الإقامة فى المدينة لمزيد من الوقت، ولكنه يرغب فى خوض تجربة السكن خارج المدينة تلك التجربة التي لم يعرفها طوال السنوات الأربعة المنصرمة، وعلي الفور بدأت فى الإعداد لذلك.
... يتعالي التصفيق، تغيب الموسيقي، ينزل الستار، يعود الصمت ليخيم علي المكان، ويعود صَخَب العالم الواقعي للإعلان عن نفسه، يتبدي للأسماع صوتٌ ناعم، يأتي من بعيد، يخترق الصخب، تتصاغَي الآذان، يتضح الصوتُ شيئـًا فشيئـًا. حركة انسيابية بطيئة على أوتارٍ مشدودة لآلة الكمان الآسرة، تمتزج بها طرقاتٌ رقيقة علي لوحة بيانو، ثم تعقبها أهاتٌ خافتة لكورال نسائي. يملأني شعور عارم بالألفة تجاه الموسيقي، ليست بالغريبة عن مسامعي، ومع ذلك لا أتذكرها، ينسدل الستار ببطء عن ماجدة الرومي تتوسط المسرح الافتراضي، يتعالي التصفيق مرة أخري تحيةً لهـا، وبصوتها الهادر تشـدو "كم جميلٌ لو بقينا أصدقاء ..."
الآن فقط أعرف من أين أتاني إحساس الألفة، أتساءل كم من الوقت مر علي آخر مرة استمعتُ فيها إلى تلك الأغنية، تترامي إلى ذهني مشاهد متفرقة من إحدي تلك المرات، غرفتنا الضيقة، أضطجع بسريري بينما يجلس هو فى مواجهة الكمبيوتر، يذكر شيئا عن مدي عشقه لماجدة الرومي ولتلك الأغنية علي الأخص، أسأله عن اسم والدها فيخبرني، أصيحُ مصدقًا على كلامه لاعنًا ذاكرتي الضعيفة، أخبره بأنه هو نفسه من اكتشف فيروز فيتحول مجري الحديث إلى فيروز، أقول شيئا عن مدي عشقي لها، يذكر شيئا عن الرحابنة، ثم يقطع صوتٌ منفر حديثنا، صريرٌ متصاعد، أعجز إزاءه عن الحفاظ علي عالمي الافتراضي فأعود على إثره إلى دنيا الواقع...
يتوقف المترو، أنتبه فإذا هي محطتنا، ينفتح الباب بفعل مجهول يربض على عجلة القيادة فى المقدمة، يسوق أناسًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، لا يدري هل يسوقهم أم يسوقونه، ينتقل بهم بين المحطات ذاتها كل يوم، وكأنما يذكرهم بحياتهم الرتيبة المكررة، أدلف إلي الرصيف فى خطوات قصيرة سريعة يدفعها التردد أكثر منه النشاط، أتأكد من مغادرته القطار أو بالأحري مغادرته عالمه الخاص، أتقدمه متجاوزًا بوابات الخروج بينما الأفكار تعود لمهاجمتي مرة أخري، عبثًا أحاول تفاديها. فشلت كل خبرتي اللغوية طوال اثني وعشرين عامًا فى مد جسرًا للكلام تعبر عليه الأفكار بيننا.
عاد الهدوء نسبيًا بوصولنا إلى المسكن، بدأ كلٌ منا في إعداد عدته مرة أخري للغياب عن الآخر خلال تلك الدقائق التي تفصلنا عن النوم حيث الانتقال إلى عالمٍ آخر يسبح فيه كلٌ منا منفردًا، كلٌ علي حسب ما ترسب فى عقله الباطن. خَلت تلك الدقائق سوي من محاولة مني لإعداد الشاي قابلها بشكر فاتر. تناولت أوراقي وبدأت فى كتابة تلك السطور التي أعرف مسبقًا أنه لن يقرأها أو أنه لن يهتم بقراءتها، وهنا عادت الأفكار وعادت الأسئلة وعاد ذلك الشعور الغريب المصاحب لتلك اللفظة المقيتة. أخذت أتساءل: متي انسحب الود ليحل محله ذلك الشعور البارد؟ متي صار ما يجمعنا مجرد جدران صماء لا تدعو سوي للانغلاق والاكتئاب؟ كيف تغاضينا عن ذلك السكوت حتي أصبح سرمديًا؟ كيف أضحي كل ما يربطنا مفتاح بمقدوره ضم جسدينا - دون روحينا- بمكان واحد؟
... وفجأة توقفت الأسئلة عن البحث عن أجوبتها، وكفت الأفكار عن مطاردتي، وعاد ذلك الصوت الهادر للتجول بين أروقة عقلي، فلملمت أوراقي وآويت إلي مهجعي ملقيًا بنظرة أخيرة على شريكي الذي كان ساكنًا فى مكانه على مقربةٍ من النوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبها / محمد عوض ... "سقراط"
14 اتكلموووووو:
حبيبي يا برنجي
كل سنه وانت طيب الاول بمناسبه راس السنه
بدون مبالغات او بكش زي ما انت بتسميها عجبتني اوي اراءك في جو المترو
جو تاني غير المعتاد علي جو المترو المفروض انو زحمه ودوشه وصداع و تيت تيت باب يفتح وتيت تيت الباب يقفل وده المفروض عند كل الناس بس انت عيشتني في جو المسرح
موضوع تاني اشمعني هبوط يعني
ههههه بتفكرني بي الممثل الي اسمه اللمبي هبوطث حاد
وكمان اشمعنه الصورده دي بزات
انا معرفش اللي كتبته دا صح ولا غلط بس
والله
دا اللي فبالي
البرنجي الكبير علاء ريحان
استاذة لطيفة
كل سنة وانت بكل خير وسعادة
نورتي المدونة بحد
انا مش فاهم بالظبط الحبل انقطع فين
بس علي كل حال انا هحاول اشوف المشكلة فين
متشكر جدا علي مرورك الكريم
ومرة تانية كل سنة وانت طيبة
علاء
من غير القاب بقي
احنا خلاص خدنا علي بعض
كل سنة وانت جميل يا معلم
الحمد لله ان التدوينة عجبتك
اما بخصوص سؤلاتك
شوف يا سيدي
العنوان هبوط
لان ده المعني العام في التدوينة
او اللي سايد فيها
يعني الهبوط من العالم اللي فوق للعالم اللي تحت
والهبوط في العلاقة بين الاتنين الاصدقاء
اما بقي موضوع الصورة
الفكرة في المعني اللي ممكن تقوله الصورة
يعني بص لها كويس وشوف ايه المعني اللي هايخطر علي بالك
وشوف اذا كان ليه علاقة بالتدوينة ولا لأ
ولو ما وصلتش لحاجة انا هاقولك انا قصدي ايه
واخيرا بقي
تسلم علي وجودك يا برنجي
وكل سنة وانت بكل خير
العزيز جدا اوى خالص:سقراط
بص بقى يا محمد يا عوض انت اللى جبته لنفسك وبالتالى انا هتكلم لحد ما الكلام يخلص..او احس انى كدة قلت كل الكلام
الهبوط يصيب كل شىء فى العالم بتاعى الايام دى..اما هى فتصر ان تستاثر بالنصيب الاكبر فى ذلك الهبوط
كنا اصحاب جداااااااا لا مش اصحاب احنا كنا واحد بنى ادم واحد يقدر يتواجد فى مكانين فى نفس الوقت
بس فجاة بقينا مش موجودين مع بعض مع اننا قاعدين جنب بعض فى احيان كتيرة..مش ملل لالا دة تغير فى النفوس
انا مش بالومها على فكرة ولا بالوم نفسى انا بس زعلانة انها مبقتش تعرفنى دلوقتى مع ان باعترافها انا لسة اعرفها كويس وليا دور كبير
فهمت حاجة؟؟؟ ولا انا كمان بس انا دلوقتى بقيت بعرف اكره وبعرف امثل انى بحب
دة فى حد ذاته تقدم مذهل
سلام
بجد بجد بجد انا مش عندي تعليق و لا كلمات ممكن توصف مدى روعه الكلمات و الاسلوب اللى اتكتبت به التدوينه :)
و لا عارفه اعبر عن مدي اعجابي بالفكره اللى عرضتها ف تدوينتك يا سقراط ... مافيش غير كلمه "رائعه" و كل مشاعر الشكر على انك اتحت لى الفرصه للتعليق عليها :)
شكرا يا محمد
و بيتهيالي انك عارف انا مين فبلاش امضاء :)
العزيزة جدا اوي خالص مالص
انجي
منورة
فيما يخص الهبوط اللي عندك
انا مافهمتش قوي يعني
بس اقدر اقولك اني متخيل اللي انت عاوزة توصفيه
واحب اطمنك كمان ان الدنيا هاتبقي احسن بينك وبين صاحبتك قريب
لان ده حصل معايا
دمتي بكل خير
Anonymous
بجد بجد بجد بجد
انا مش عندي كلمات توصف مدي شكري ليكي علي الكلام الجميل ده
يمكن لاني تلقيت ردود افعال وحشة كتير قوي علي التدوينة دي
فده احسن رد فعل
وبجد بشكرك جدا
وطالما انت افترضتي ان انا عارف انت مين
حتي لو انا ماكنتش عرفت
دمتي بكل خير
لا مش هترجع
خلاص....جبناها على بلاطة
اممم
السكوت والصمت
كالقاتل الصامت
الذي يغتال المشاعر
ويسرب الاحاسيس
فلا يبقى في القلب الا الفراغ
عن نفسي اتقنت محاربته
وغالبا ما انتصر عليه ولله الحمد
فقد اكتسبت خبره كبيره
من صراعي معه :)
يسعد أوقاتك ..بجد أكتر من رائعةوبجد لاااااااتعليق يوازى إعجابى بيها..."كم جميلا لو بقينا أصدقاء"عبارة تفوق كل الكلمات بس للأسف فقدت المصداقية..أنا أعرف إن الصداقة اتفاق معنوى للحب والعطاءوالشعور المتبادل والالتزام الأبدى ..يعنى لازم يلتزم الطرفين بالمصداقية واصعب إحساس ممكن يحسسك إنك بتخسر أهم إحساس هو البرود والفتور والسؤال....لحد إمتى ممكن تتحمل الإحساس ده خاصة لو كنت أنت بس اللى فارق معاك والآخر فقط ..يتجاهل..تعرف إن الصداقة أهم بكتير من الحب لإن الدموع اللى بيسببها الحبيب بتمسحها إيد الصديق معلهش طولت عليك بس مرة تانية المدونة أكتر من رائعة والصورة كمان اختيار موفق..ربنا يوفقك
وايت روز
نورتي المدونة
انا بجد سعيد جدا برأيك
ومعتز بيه جدا
وما تقلقيش خالص من حكاية التطويل
دي حاجة بتفرحني اني اقرأ تعليق طويل وجميل
بجد نورتي المدونة
ومتشكر جدا علي كلامك الجميل
دمت بكل جمال
Post a Comment