Tuesday, December 29, 2009

* هبــوط

اللوحة للفنان الإيراني / إيمان مالكي

بخطوات أثقلها الإرهاق والتعب هبطتُ تلك الدرجات المؤدية إلى ذلك العالم السفلي المعروف ضمنيـًا بـ المترو، تزامنـًا مع هبوط دورتي الدموية بعد يوم طويل من الطواف بين الكلية والعمل ثم أخيرًا تلك "الخروجة"، كما يروق لنا تسميتها، وعلي بـُعد خطوات أخري كان على ثلاثتنا الافتراق، حيث سيتخذ ثالثنا من رصيف المرج منطلقا له، بينما نتجه - أنا وهو- إلى رصيف الجيزة.

أخبرته باقتضاب شديد أني "معايا تذكرتي"، فانطلق ولم يعقب فى مِشيَةٍ هي الأقرب إلى الترنح، تشي برغبة صاحبها فى التساكر إن لم يكن بالخمر فبالقراءة تارة وبالشاي أخري، وبكل أصناف الفنون فيما تبقي له من أحيان. تقدمته إلى البوابات المؤدية إلى الرصيف وأخذت أعد العدة للغياب خلال تلك الدقائق التي تفصلنا عن المسكن، مستخدمًا تلك الوسيلة السحرية التى تكفل لى وحدي الاستئثار بالموسيقي الصادرة عن هاتفي المحمول، وتقوم في الوقت نفسه بانتشالي من ذلك العالم السفلي الذي لا يقلّ فى صخبه عن نظيره فى الأعلي، ولم يلبث هو الأخر أن قام بالمثل سابحًا بين صفحات كتابه مبتعدًا عن كل ما يمت بصلة للواقع من حوله.

... هدوء تام يتسيد المكان عقب انتهاء أنغام من تقديم وصلتها الغنائية على ذلك المسرح الافتراضي، ثم يتعالي الصَفِير والتصفيق لانسدال الستار عن جوني كاش الذي يقوم بتحية الجمهور – الافتـراضي أيضا- ثم التعريف عن نفسه كـعادته قبل أن يبدأ، أتسلل خـارجـًا من المـسرح ملقيًا نظـرة خـاطفة على العـالم الأخـر، أعبر تلك المسـافة القصـيرة التى تفصـل فيمـا بيننا لأجـده لايـزال غـائبًا فى دنياه الخــاصة ـرفقة كتابه، أعـود من فـوري إلى المسـرح حيث جوني كـاش يردد " San Quentin, I hate every inch of you" .. أتعجب من وقع اللفظ فى نفسي.
(((((((((("HATE"))))))))))

أتفكر مليـًا، أستعرض لحظاتٍ كُـثر جمعتنا فيها النشوة والطمأنينة، لحظات مزجت بين أرواحٍ تـُركت على سجيتها، أتأمل مقولة العم يحي حقي "ما أجمل تركُ النفس على سجيتها مع إنسان يحمل لك الود ويترك هو أيضا نفسه على سجيتها"، تجري الأفكار مني مجري الغصة فى الحلق، ومهما كان من تجاهلها فلا يشغلني عنها إلاها. أسترق النظر إليه فيبدو غريبا عني، أتعجب من قدرتنا على اقتسام غرفة واحدة للسكن، أعود لتلك الأيام التي سبقت انتقاله من المدينة الجامعية للإقامة معي بعد انتهاء الدراسة، وسعيي الحثيث لذلك، أذكر يوم أخبرني أن بإمكانه الإقامة فى المدينة لمزيد من الوقت، ولكنه يرغب فى خوض تجربة السكن خارج المدينة تلك التجربة التي لم يعرفها طوال السنوات الأربعة المنصرمة، وعلي الفور بدأت فى الإعداد لذلك.

... يتعالي التصفيق، تغيب الموسيقي، ينزل الستار، يعود الصمت ليخيم علي المكان، ويعود صَخَب العالم الواقعي للإعلان عن نفسه، يتبدي للأسماع صوتٌ ناعم، يأتي من بعيد، يخترق الصخب، تتصاغَي الآذان، يتضح الصوتُ شيئـًا فشيئـًا. حركة انسيابية بطيئة على أوتارٍ مشدودة لآلة الكمان الآسرة، تمتزج بها طرقاتٌ رقيقة علي لوحة بيانو، ثم تعقبها أهاتٌ خافتة لكورال نسائي. يملأني شعور عارم بالألفة تجاه الموسيقي، ليست بالغريبة عن مسامعي، ومع ذلك لا أتذكرها، ينسدل الستار ببطء عن ماجدة الرومي تتوسط المسرح الافتراضي، يتعالي التصفيق مرة أخري تحيةً لهـا، وبصوتها الهادر تشـدو "كم جميلٌ لو بقينا أصدقاء ..."

الآن فقط أعرف من أين أتاني إحساس الألفة، أتساءل كم من الوقت مر علي آخر مرة استمعتُ فيها إلى تلك الأغنية، تترامي إلى ذهني مشاهد متفرقة من إحدي تلك المرات، غرفتنا الضيقة، أضطجع بسريري بينما يجلس هو فى مواجهة الكمبيوتر، يذكر شيئا عن مدي عشقه لماجدة الرومي ولتلك الأغنية علي الأخص، أسأله عن اسم والدها فيخبرني، أصيحُ مصدقًا على كلامه لاعنًا ذاكرتي الضعيفة، أخبره بأنه هو نفسه من اكتشف فيروز فيتحول مجري الحديث إلى فيروز، أقول شيئا عن مدي عشقي لها، يذكر شيئا عن الرحابنة، ثم يقطع صوتٌ منفر حديثنا، صريرٌ متصاعد، أعجز إزاءه عن الحفاظ علي عالمي الافتراضي فأعود على إثره إلى دنيا الواقع...

يتوقف المترو، أنتبه فإذا هي محطتنا، ينفتح الباب بفعل مجهول يربض على عجلة القيادة فى المقدمة، يسوق أناسًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، لا يدري هل يسوقهم أم يسوقونه، ينتقل بهم بين المحطات ذاتها كل يوم، وكأنما يذكرهم بحياتهم الرتيبة المكررة، أدلف إلي الرصيف فى خطوات قصيرة سريعة يدفعها التردد أكثر منه النشاط، أتأكد من مغادرته القطار أو بالأحري مغادرته عالمه الخاص، أتقدمه متجاوزًا بوابات الخروج بينما الأفكار تعود لمهاجمتي مرة أخري، عبثًا أحاول تفاديها. فشلت كل خبرتي اللغوية طوال اثني وعشرين عامًا فى مد جسرًا للكلام تعبر عليه الأفكار بيننا.

عاد الهدوء نسبيًا بوصولنا إلى المسكن، بدأ كلٌ منا في إعداد عدته مرة أخري للغياب عن الآخر خلال تلك الدقائق التي تفصلنا عن النوم حيث الانتقال إلى عالمٍ آخر يسبح فيه كلٌ منا منفردًا، كلٌ علي حسب ما ترسب فى عقله الباطن. خَلت تلك الدقائق سوي من محاولة مني لإعداد الشاي قابلها بشكر فاتر. تناولت أوراقي وبدأت فى كتابة تلك السطور التي أعرف مسبقًا أنه لن يقرأها أو أنه لن يهتم بقراءتها، وهنا عادت الأفكار وعادت الأسئلة وعاد ذلك الشعور الغريب المصاحب لتلك اللفظة المقيتة. أخذت أتساءل: متي انسحب الود ليحل محله ذلك الشعور البارد؟ متي صار ما يجمعنا مجرد جدران صماء لا تدعو سوي للانغلاق والاكتئاب؟ كيف تغاضينا عن ذلك السكوت حتي أصبح سرمديًا؟ كيف أضحي كل ما يربطنا مفتاح بمقدوره ضم جسدينا - دون روحينا- بمكان واحد؟
... وفجأة توقفت الأسئلة عن البحث عن أجوبتها، وكفت الأفكار عن مطاردتي، وعاد ذلك الصوت الهادر للتجول بين أروقة عقلي، فلملمت أوراقي وآويت إلي مهجعي ملقيًا بنظرة أخيرة على شريكي الذي كان ساكنًا فى مكانه على مقربةٍ من النوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبها / محمد عوض ... "سقراط"