Friday, December 24, 2010

التطبيع بنكهة طبيعية




الدكتور عبد الوهاب المسيري حكي في مرة ان الشاعر أمل دنقل، رحمهما الله، كان واخد موقف منه مع العلم ان معرفتهم ببعض كانت سطحية جدا، لكن لما كانوا بيتقابلوا صدفة في أي مكان كان الاستاذ دنقل بيسلم عليه بفتور وبرود واضحين قوي، وفي يوم الدكتور المسيري اتفاجئ ان الاستاذ دنقل أقبل عليه وسلم عليه بحرارة شديدة، ولما سأله عن سبب التغير المفاجئ ده، قاله بكل صراحة انه لما سمع عن مشروع موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ظن في الأول ان المشروع كان قايم بالأساس علي خلفية التطبيع ولمصلحة الجانب الصهيوني، لكن لما عرف الحقيقة موقفه اتغير طبعا، ويمكن ده نفس الموقف اللي اتخذه مركز الأهرم للدراسات الاستراتيجية والسياسية من تمويل المشروع لكن في الاتجاه المغاير، لان المركز في الأول كان متحمس جدا لفكرة للمشروع لكن بعد ما اتأكد من حقيقته انسحب من غير كسوف عن تمويله، وموله الدكتور المسيري بنفسه .. انا طبعا لسه ما قريتش الموسوعة، مش بس لأنها ضخمة لكن كمان لاني مش مستعد أدفع 2000 جنيه لمكتبة الشروق، لكن ما علينا، ده مش موضوعنا.

كان طبيعي اني أفتكر الموقف ده واللي حكاه الدكتور المسيري في سيرته الذاتية لما قريت في جريدة أخبار الأدب في عدد 10 أكتوبر 2010، وفي صفحة خصصت لعرض الأعمال الأدبية العبرية وباسم (من الثقافة العبرية) .. الصفحة كلها كانت بتدور حول ردود الفعل علي الفكرة نفسها، فكرة عرض الاعمال العبرية في جريدة رسمية مصرية، وما بين مؤيد ومعارض ومحايد ومش فارقة معاه، كانت المقالة الرئيسية في الصفحة هي مقالة السيد/ زياد مني، كما وصفه نائل الطوخي الصحفي بالجريدة والذي كُـلِف بالرد علي المقالة، ودارت مقالة السيد/ زياد مني حول الرأي الأخر الرافض للوجود الصهيوني في الاراضي العربية، والرافض لوجود صفحة زي دي في جريدة مصرية، والرجل بمنتهي الأدب عرض رأيه بشكل محترم، وأحاطه بدزينة من الحجج المنطقية التي توضح دواعي رفضه لمثل تلك الفكرة، وعلي جانب أخر من الصفحة تظهر بعض الأراء في بث مباشر من علي صفحات الفيس بوك، بين معارضٍ وحيد، ومؤيدين كُثُر، ثم يأتي في الركن الأخير مقال الاستاذ نائل الطوخي الذي كُلِف من الجريدة ليس بالرد علي زياد مني بقدر التفنيد المهذب في شكله، غير المهذب في مضمونه، للحجج التي ساقها مني في مقاله.

الجانب الأكثر إثارة للانتباه في مقالة زياد مني، واللي أغفله نائل الطوخي تماما، هو الربط بين الإعلان عن صفحة "من الثقافة العبرية" وبين حملة السيد وزير الثقافة فاروق حسني للفوز برئاسة منظمة اليونسكو، والربط بشكل أخر مابين الحملة نفسها وبين تراجع السيد الوزير عن مطالبته بحرق كتب الأدب العبري، مما أهل السيد الوزير لدخول موسوعة جينس للأرقام القياسية، حيث أنه المسئول الأكثر رجوعا في كلامه وتصريحاته علي مستوي العالم، {رأيه في الحجاب، تصريحاته بعد سرقة زهرة الخشخاش، وغيرها وغيرها} ويمكن علشان كده حسيت وانا بقرأ مقالة نائل الطوخي بإن الجريدة بتبعت رسالة شديدة اللهجة لكل من تسول له نفسه معارضتها في هذا الأمر.

أنا عارف اني ماكتبتش التدوينة دي علشان أتكلم عن ثقافة الأخر، لكن بصراحة أنا مش قادر أمنع نفسي من التعليق علي الطريقة الرخيصة اللي اختارتها الجريدة، وأعني بالاسم الاستاذ جمال الغيطاني رئيس التحرير رغم تقديري الشديد له، لعرض الموضوع في صورة بتسميها الجرايد دايما "الرأي والرأي الأخر"، مع العلم إننا في مصر عمرنا ما شفنا الرأي الأخر ده شكله ايه، ودايما تلاقي الصفحات اللي بتحمل الاسم ده في كل الجرايد بتتخذ موقف واحد بس من كل الموضوعات اللي بتناقشها، واللي بيكون في الغالب موقف الجريدة نفسها واللي بيعبر بالأساس عن مصلحة الجريدة المادية البحتة.

انا عنيت من التدوينة دي اني اتكلم عن موقف الأجيال الجديدة من مسألة التطبيع، وبشكل مجرد تماما، ومن غير فلسفة، أنا أقصد أقول: ازاي ناس ما تعرفش يعني ايه تطبيع تقول رأيها فيه، بصرف النظر بقي عن إن رأيها ده هاتاخد بيه الجريدة ولا لأ، هي يعني جت علي جريدة أخبار الأدب اشمعنا يعني هي اللي هاتبقي ديمقراطية، وياريت ماحدش يفهم كلامي برضه علي انه وصلة جديدة من وصلات العياط علي حالنا واللي وصلنا ليه، لكن أنا فعلا عندي سؤال واضح ومحدد ومحيرني من زمان .. زمان كان كل جيل في حاجة ثابتة بتربط أفراده كلهم، وبتقدر تعرفهم من خلالها، وتقدر كمان تعرف اتجاهاتهم وأرائهم حتي لو اختلفت تجاه قضية معينة بالرجوع للحاجة الثابتة دي، لكن جيلنا الظالم المظلوم ده، التائه المتوه ده، ايه الثابت المحدد اللي نقدر نعرفه من خلاله؟ الناس اللي هايجو بعدنا بتلاتين ولا اربعين سنة لما يجيو يتكلموا عننا هايقولوا ده كان جيل ايه؟ يعني مثلا، مين اللي حكم وقال ان تامر حسني ده هو نجم الجيل؟؟ يعني لو اعتبرنا ان هو ده المحدد يبقي نقدر نقول ان الجيل كله جيل تافه، ومين كمان اللي سمح للإعلان اللي بيقول ان روتيتو هي بطاطس جيلنا؟ طيب هو جيل السبعينات كانت بطاطسهم ايه؟؟؟

لو هاتسألوني عن الثابت المحدد ده اللي نقدر نوصف بيه جيلنا، هاقول ان الجيل ده اتحرّم –بتشديد الراء- عليه التفكير، التفكير عموما حتي في أخص الأشياء اللي تهمه هو بس مش أي حدي تاني، سواء بقي كان اللي بيحرم ده الحكومة ولا أبوه ولا أمه ولا المجتمع بعاداته وتقاليده، اتحرم عليه انه يفكر في اي حاجة وفي كل حاجة، في حياته ومستقبله وفي كل اختياراته، وكان دايما حد تاني هو اللي بيفكر له وطبعا بيختار له، ويمكن ده السبب الأساسي في انتشار الفكر السلفي الأيام دي، لأن الفكر ده بيقولم بالأساس علي إلغاء البني ادم، وانه يكون مابيفكرش ومالوش رأي.

احنا مش موافقين علي التطبيع لكن برضه مش معترضين عليه، لاننا مانعرفش يعني ايه تطبيع ولا يعني ايه تفكير ولا يعني ايه اختيار، وجيل زي ده ماينفعش تسأله عن رأيه في حاجة، وطالما مالوش رأي يبقي الجريدة من حقها تفرض رأيها، وتنزل الصفحة، وتطبع التطبيع بنكهة طبيعية، ومن غير مواد حافظة كمان.