Saturday, December 24, 2011

ضد الحكومة




إنها ليست قضية مدرسة أو مجموعة من التلاميذ أوقعهم حظهم التعس في قبضة سائق متهور، أو صدفة عمياء أودت بحياة عشرين فتي وفتاة من أنبه أبنائنا، القضية أيها السادة أخطر من ذلك بكثير، إنها قضية بلدٍ بكامله نخر السوس أعمدته وأوشك بنيانه علي السقوط، لو حدث أو وقع مثل هذا الحادث في أي مكان في العالم يُحترم فيه الإنسان لاستقالت الحكومة علي الفور ولحُوكمت وأدينت لقاء إهمالها، أيها السادة الفرصة مازالت في أيدينا ولا يجب أن نفلتها، وطالما أن السادة الوزراء المسئولين عن النقل والتعليم وخلافه ممن لهم علاقة بهذا الحادث المروع الذي نحن بصدده، طالما أنهم لم يهتز لهم جفن ولم يقدموا استقالتهم حتي الآن فأنا أختصمهم بصفتهم وأسماءهم وأطالبهم بالمثول أمام عدالتكم كمتهمين والتحقيق معهم.


ضد الحكومة، فيلم مصري من انتاج عام 1992، بطولة النجم الأسمر أحمد ذكي، عن قصة وجيه أبو ذكري، ومن إخراج عاطف الطيب. يتناول الفيلم قصة حقيقية وقعت أحداثها منذ ما يزيد علي العشرين عامًا، إلا أن الأحداث الجارية الآن ونحن علي مشارف العام الثاني عشر بعد الألفية الثانية، يبدو فيها جليًا أن النسيج الاجتماعي والسياسي المصري لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر يتناسب وطول الفترة الزمنية التي تفصلنا عن الفيلم.

يبدأ الفيلم بحادث مروع نتيجة اصطدام أحد القطارات بأتوبيس رحلات يقل تلاميذ أحد المدارس ويسفر عن مصرع عشرين تلميذًا وتلميذة، ثم يقوم الاستاذ مصطفي خلف المحامي، والذي يقوم بدوره الفنان أحمد ذكي، برفع دعوي قضائية للحصول علي تعويضات مالية لأسر الضحايا. اعتاد الأستاذ مصطفي الترافع في مثل تلك القضايا والاستئثار بمبلغ التعويض لنفسه دون أصحاب الحق وهم أسر الضحايا، ولكنه في تلك القضية يصطدم بحالة خاصة، حيث يكتشف أن أحد ضحايا تلك الحادثة من المصابين هو ابنه الذي لم يكن يعرف بوجوده من قبل، وهذه هي نقطة التحول في الفيلم حيث يقوم الاستاذ مصطفي برفع دعواه القضائية مختصما الحكومة نفسها ومطالبًا بمثولها بين يدي القضاء علي اعتبار أنها المسئول الأول والحقيقي عن الحادث.


- وقد أصر الأستاذ مصطفي خلف المحامي علي الاستمرار في القضية مختصمًا الوزراء والمسئولين عن الحادث، فهو يري أن المسئول عن حادثة أتوبيس الموت ليس سائق الأتوبيس أو عامل التحويلة بل النظام بأكمله.

- يعني ايه النظام يا ماما؟

- يعني الوزرا والحكومة والمؤسسات اللي بتحكم.


في إطار الأحداث الأخيرة التي تمر بها مصر من صدام عنيف بين السلطة ممثلة في المجلس العسكري والجيش من ناحية، وبين ثوار ومعتصمي ميدان التحرير من ناحية أخري، وسقوط عشرات القتلي وإصابة المئات بإصابات متفرقة كان أغلبها نتيجة إعمال الأسلحة النارية في أجساد المعتصمين علي مدار خمسة أيام متواصلة، جاءت الدعوة يوم الثلاثاء الماضي الموافق 20 من ديسمبر/كانون الأول إلي الاعتصام والمبيت بالميدان للحيلولة دون مزيد من إراقة الدماء التي غالبا ما تتم ليلا بعيدًا عن أعين المنظمات الحقوقية والإعلام، وفي الإطار نفسه تم تشكيل لجنة قضائية مستقلة للقيام بمهام التحقيق في تلك الاحداث والمسماه بأحداث مجلس الوزراء، للوقوف علي المسئولين الحقيقين عن كل تلك الدماء، في أجواء شديدة الشبه بالأجواء التي دارت فيها أحداث الفيلم من حيث أن القضية ليست جنائية وإنما هي سياسية بالأساس، ومن ثم فيجب محاسبة المسئول الجنائي عن الحادث وهم في حادثة مجلس الوزراء ضباط وجنود الجيش الذين قاموا بأعمال العنف والقتل والسحل، فضلا عن المسئول السياسي عن الحادث ممثلا في المجلس العسكري القائم علي شئون البلاد والمتولي السلطة رسميا منذ فبراير/شباط الماضي.


- يا فندم أرجوك افهمني، الأتوبيس مادخلش في القطر كده من نفسه ولا حتي صدفة، في مسئول ورا ده كله، هو اللي وصل مزلاقنات القطر إنها تكون من غير إشارات، وهو اللي خلي سواق الأتوبيس اللي المفروض إنه مسئول عن أرواح البني آدميين ياخد مخدرات.

- ماهو ده بيحصل في أي مكان في العالم.

- أيوة بس بيكون بحساب، وبتتحدد المسئوليات بدقة، كل واحد بيأدي واجبه، ولما يحصل الخطأ بيبقي معروف مين بالظبط المخطئ ويتحاسب.

- الله.. يعني انت عاوز وزير النقل ينزل يعدي علي السينافورات سنافور سنافور ويطمن ان الاشارات شغالة؟

- لازم يبقي في مسئول حقيقي مش كبش فدا يتحاسب وياخد جزاءه، المسئول عن وسائل النقل في البلد هو وزير النقل مش عامل المزلاقان، والمسئول عن تأمين حياة تلاميذ المدارس وحمايتهم هو وزير التعليم مش سواق أتوبيس الرحلة، والمسئول عن اللي اتنين هو رئيس الوزرا، القضية لازم تتطرح كده، اللي راحوا بني آدميين، بشر، أرواح برئية مالهاش ذنب، لو المسئولين عن ضياعهم اتحاسبوا، وخدوا جزاءهم هايفكروا ألف مرة بعد كده علشان مايقعش خطأ أو إهمال مشابه.

- ماتيجي ننسي الكلام الكبير ده شوية.

- حضرتك علمتهولنا في الكلية وكتبته في الكتب.

- البلد مش مستحمله هزات.

- البلد مش هاتتقدم إلا بمواجهة أخطائها، مش عيب اننا نبقي بلد متخلف، لكن العيب الحقيقي ان احنا نحط راسنا في الرمل ومانواجهش التخلف ده، اذا كان حد قلبه ع البلد دي بصحيح لازم يقف يحاسب ويتحاسب.


لم يختلف رد الفعل الرسمي حيال الاحداث الأخيرة عن نظيره في الفيلم منذ ما يزيد علي العقدين من الزمان، حيث اعترف المجلس العسكري _ولو جزئيا_ من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده اللواء عادل عمارة بأن هناك تجاوزات صدرت عن ضباط وجنود الجيش، إلا أنه نفي تماما إطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين، وبعيدا عن الاعتراف الجزئي، يبقي اعتراف المجلس العسكري بالمسئولية الجنائية فقط دون المسئولية السياسية، وفي المقابل طالب المتظاهرون بمحاكمة ثورية للمجلس العسكري عن كل عن تلك كل تلك الجرائم التي جرت طوال العشرة شهور الماضية هي عمر المجلس العسكري في السلطة، باعتباره المسئول السياسي وليس الجنائي، عن كل تلك الجرائم.


- سيدي القاضي، أصبح من المعروف أن القضاء المصري هو الحصن الباقي والأخير، فأنا أهيب بعدالتكم ألا نُفلت من أيدينا هذه الفرصة، وإذا كان السادة الوزراء قد رفضوا المثول أمام عدالتكم، فهذا يعني أنهم لا يحترمون القضاء.

- يا أستاذ اتكلم في موضوع القضية أحسن.

- هذا هو موضوع القضية، سواق الاتوبيس وعامل التحويلة ليسوا أكثر من أدوات يحركها نظام كامل، سيدي القاضي انا مُصرّ علي مطلبي باستدعاء السادة المسئولين الحقيقيين عن المأساة لاستجوابهم.. وشكرًا.


كما سبقت الإشارة أن رد الفعل الرسمي علي أحداث مجلس الوزراء لم يختلف كثيرا عن نظيره بالفيلم، إلا أن أكثر القواسم المشتركة بينهما هو الاتجاه لتشويه القضية والتشويش علي تلقي الرأي العام لها، حيث قام الدكتور عبد النور محامي الدفاع والذي يقوم بدوره الفنان أبو بكر عزت بمحاولة تشويه الاستاذ مصطفي خلف بإثارة تاريخه في قضايا التعويضات المشبوهة، وإقالته من النيابة بعد اتهامه بالارتشاء إلي غير ذلك، في محاولة منه للتأثير علي حكم القضاء علي شخص المدعي وطبيعة القضية، وهو ما تماثل مع رد الفعل الرسمي علي أحداث مجلس الوزراء ممثلة في تصريحات الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء عن أن معتصمي مجلس الوزراء ليسوا سوي بلطجية ومأجورين ولا يمتون بأدني صلة إلي شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير، كما اتهمهم بتخريب المنشآت العامة وحرق المجمع العلمي، وهي نفس الاتهامات التي تناقلها أنصار المجلس العسكري في الأوساط الافتراضية علي المواقع الاجتماعية لشبكة الانترنت، مما حدا بالثوار إلي الرد علي تلك الاتهامات بأنه وان كانت هيئتهم توحي بذلك فهو من جراء سياسات الإفقار والتجهيل التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة للنظام الذي قاموا بالثورة عليه، والتي كان من ضمنها حكومة الدكتور كمال الجنزوري.


وعلي الرغم من التباعد الشديد ما بين الواقع المصري الان من ناحية، والواقع المصري في فيلم ضد الحكومة من ناحية أخري، إلا أن مرافعة الأستاذ مصطفي خلف في نهاية الفيلم تبدو وكأنها تدافع عن ثوار التحرير، وترد لهم حقهم، ويكأن الإنسان يستعصي عليه الاعتبار علي الرغم من أن معركة الحق والباطل تأبي إلا أن تأتي في نفس الصورة مهما تباعدت الأزمنة.


أشكر أستاذي وزميلي الدكتور عبد النور الذي أتاح لي هذه الفرصة لأعلن كل خطاياي أمامكم وعلي الملأ لعلي أتطهر منها، نعم .. أنا مثالٌ للمحامي الفاسد، بل أكثر فسادًا مما يتصوره أستاذي، أنا ابنٌ لهذه المرحلة والمراحل التي سبقتها، تفتح وعيي مع التجربة الناصرية، آمنت بها ودافعت عنها، فرحت بانتصاراتها وتجرعت مرارة هزائمها وانكساراتها، هنت عندما هان كل شيء، وسقطت كما سقط الجميع في بئرٍ سحيقٍ من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة، أدركت قانون السبعينات ولعبت عليه وتفوقت، تاجرت في كل شيء؛ في القانون والأخلاق والشرف أنا لا أنكر شيئا، ومستعد للحساب وتحمل المسئولية، بل أكثر من ذلك أعترف أمامكم بأنني دخلت هذه القضية طامعًا في مبلغ تعويض ضخم، لكني .. لكني اصطدمت بحالة خاصة، شديدة الخصوصية، جعلتني أراجع نفسي، أراجع موقفي كله، أراجع حياتي وحياتنا، اصطدمت بالمستقبل، نعم .. صبي من الذين حكم عليهم أن يكونوا ضمن ركاب اتوبيس الموت، رأيت فيه المستقبل الذي يحمل لنا طوق نجاة حقيقي، رأيتنا نسحقه دون ان يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أن هذه هي طبائع الأمور، وكان لابد لي أن اقف وأصرخ؛ إن هذه جريمة، جريمةٌ كبري لابد أن يحاسَب من تسبب فيها، إني لا أطلب سوي محاسبة المسئولين الحقيقين عن قتل عشرين تلميذًا لم يجنو شيئا سوي أنهم أبنائنا، أبناء العجز والإهمال والتردي. كلنا فاسدون .. كلنا فاسدون .. لا أستثني أحدًا حتي بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة، سيدي الرئيس كل ما أطالب به أن نصلي جميعًا صلاة واحدة لإلهٍ واحد، إله العدل الواحد الأحد القهار، لست صاحب مصلحةٍ خاصة، وليست لدي سابق معرفةٍ بشخوص الذين أطلب مسائلتهم، ولكن لدي علاقة ومصلحة في هذا البلد، لدي مستقبل هنا أريد أن أحميه. أنا لا أدين أحدًا بشكل مسبق، ولكني أطالب المسئولين الحقيقين عن هذه الكارثة بالمثول أمام عدالتكم لسؤالهم واستجوابهم، فهل هذا كثير، أليسوا بشرًا خطائين مثلنا، أليسوا قابلين للحساب والعقاب مثل باقي البشر، سيدي الرئيس أنا ومعي المستقبل كله، نلوذ بكم، ونلجأ إليكم فأغيثونا .. أغيثونا .. أغيثونا والله الموفق.

محمد عوض