Sunday, March 22, 2009

فى المترو




كم يُثيرون غيظي .. كم أحسدهم على ذلك الثبات .. حاولت بدافعٍ من الغبطة أحيانًا، ومن الحسد أخري، أن أحذو حذوهم واتمكن من الوقوف بثبات دون التشبّث بأى من تلك الحلقات البلاستيكية، أو الأنابيب المصمتة، أثناء سير المترو ...
قضيت لحظاتٍ أرقبُه خلتها دقائق .. يقف بثبات، لا يُعِير تلك المكابح اهتمامًا .. يتشبّث بمصرعي كتابه كما أفعل أنا مع تلك الأنبوبة العمودية فى أحد أركان العربة .. بعد برهة من التأمل لفت انتباهي عنوان الكتاب .. إنها تلك الرواية التى ذاع صيتها مؤخرًا .. لا أنكر أنها أعجبتني، وإن كنت أكره ذلك، بدافع من كرهي لكل ما يروق هؤلاء الحمقي الملايين ...
حدثتني نفسي بمبادلته أطراف الحديث بصدد تلك الرواية .. ليس ذلك تمامًا ما أردته، وإنما أردت الولوج عبر هذا الثابت .. لم يَطل ترددي حتى بادرته، أو قل فاجأته قائلة: إنها "فانتزيا"، أليس كذلك؟ .. فردّ باقتضاب شديد بعد نظرة طويلة فاحصة: نعم هى ...
تجاوزت عينيه التى لم تلبث أن عادت إلى الأوراق مرة أخري، وقلت فى شيء من التوتر: كيف تراها؟ .. باعد بين مصرعي ثغره راسمًا ابتسامة قصيرة تزامنت مع تقارب مصرعي الكتاب مغلقا إياه وقال: أنا أقرأها للمرة الثانية ولم تتغير رؤيتي لها .. مزيج من السطحية والمبالغة، ينقصها الكثير من الحبكة الفنية، وان لم تخل من المثيرات الشعبية. تساءلت مسرعة: وما المثيرات الشعبية؟ .. فأجاب فى هدوء: ثُلة من مثيرات الانفعال، يأتى على رأسها الجنس والنزاع الطبقي، والتى غالبًا ما يستخدمها الكاتب لتحقيق مدي أوسع من الانتشار، وقدر أكبر من العائد المادى .. أفلتُّ قبضتي استعدادًا للزود عن نفسي التى تمثلت فى إعجابي بتلك الرواية، وقلت فى شيءٍ من الانفعال: إذن أنت أحدهم؟ .. تقطّبت جبينه، وتقوّس حاجباه، وتساءل بدوره: ومن هم؟ فقلت بشيءٍ من الثبات: أولاء الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام برجب. عاد إلي الابتسام قائلا: حسنا إن كان هذا هو لسان أولائك، فماذا يري تلكم؟ .. تناولت قدرًا لا بأس به من الأكسجين، وزفرته فى بطءٍ، ثم قلت: إنها مجرد تجسيد لواقعنا المرير، وذاك ليس ذنب الكاتب. فصمت قليلا ثم قال: عند مرحلة معينة لا تجدي شكوي المريض، وإنما تهّيئه لاستقبال المزيد من الآلام التى قد يؤدي تصاعدها الى سقوطه صريعا .. فأسرعت بسؤاله: إذن فلماذا تقرأها للمرة الثانية؟ فأجاب من فوره: حتى أثقل من رؤيتي، واتجنب الرؤية السطحية ... وهنا أصدر سائق المترو أوامره بكبح جماح ذلك الثعبان الحديدي الهائل، تلك الأوامر التى تلقتها المكابح بشيءٍ من الغلظة كدت أسقط على إثرها، ولكنى عدت للتشبّث بتلك الاسطوانة المعدنية، ورمقت مُحدّثي بنظرة تملؤها الغيرة حيث كان ثابتا فى مكانه
.

Friday, March 6, 2009

الاستقرار فى مواجهة الاستهتار




لو سلمنا بافتراض ان فيه حد للمقبول وحد للمعقول، ولو سلمنا برضه بان فيه فرق بين اللى اتنين دول، وممكن اوضح لكم الكلام ده بحكاية بسيطة جدا .... واحد اشتري براد شاي كهربائي، وعلى غير العادة قرأ ورقة التعليمات الخاصة بالبراد، وشد انتباهه نقطة معينة بتقول "عدم ملء البراد بكمية مياة تفوق سعته الموضحة على جانبه بالارقام" وطبعا الكلام ده معناه ان كمية الميه اللى بياخدها البراد اكبر من الكمية اللى يقدر يسخنها، وانك لو مليته كله وحاولت تسخن فيه المية ده هايقصر عليه، لكن صاحبنا ماكانش عاجبه الكلام ده فقرر يجرب بنفسه، وبناء عليه ملي البراد كله وسخن فيه الميه وماحصلش أى حاجة للبراد، لكن لما عمل كده أكتر من مرة البراد فجأة أعلن العصيان، وقال "والله مانا مسخن ولا نقطة مية تانى بعد كده" ....
والقصد من الحكاية دى ان كان فى حد للمقبول وهو الحد اللى قالت عليه ورقة التعليمات ان البراد مش هايقبل بأكتر من كده، وبرضه فى حد للمعقول ان السعة الرياضية للبراد فعلا تخليه ياخد كمية اكبر من اللى قالت عليها ورقة التعليمات، وفعلا البراد سخن الكميه دى فى الاول، لكن لما اتكررت التجربة البراد اتعطل ..
الأهم بقي من كل ده ان فى حالة وجود تصادم ما بين الحد المقبول والحد المعقول لازم يحصل انفجار، لازم نسمع صوت للتصادم ده، لازم كل واحد فى اللى اتنين دول يرجع لورا خطوتين من أثر الاصطدام، هو ده اللى بتقول عليه قوانين الفيزيا والطبيعة.

من سنتين، فى حلقة من حلقات برنامج "البيت بيتك" كان مقدم البرنامج، المذيع اللامع البارع الفاقع تامر امين مستضيف السيد محمد منصور وزير النقل والمواصلات، فى واحدة من وصلات الاستاذ تامر لتلميع الحكومة ووزرائها ..
والسيد الباشمهندس الوزير اتكلم عن خطة الوزارة لتحسين خدمات هئية السكك الحديدية، واللى طبعا مستوحاة من وحل خيال معاليه .. وزي ما المخرج ورانا ع الشاشة السيد الوزير وهو بيتفقد القاطرات الجديدة اللى أكد سيادته إنها مصممة بأيد مصرية خالصة.
وطبعا علشان الرأي والرأي الاخر كان فى لقاء مع بعض المواطنين داخل احدى القطارات واحد منهم قال: "زي ماحضراتكم شايفين مافيش نور فى القطر والقطر ده معاده الساعة 6 والساعة دلوقتى بقيت 8 ولسه الونش ماجاش" وأشياء من هذا القبيل.
لكن طبعا الاستاذ تامر تغاضي عن هذا الافتراء باعتباره قبل تنفيذ خطة معالى الوزير وان الدنيا هاتبقي فل من هنا ورايح .. وطبعا زى ماعودتنا كل الحكومات اللى تعاقبت علينا وعلى اللى خلفونا، انها زى ما بتوعد لازم تخلف وعدها، وبناء عليه وبعد سنتين لو أى حد فكر يفتح السمكة مش هايلاقي الخاتم لأن ببساطة مافيش خاتم .

فى حدود المعقول ممكن تامر يستضيف معالى الوزير ويقوله "معاليك" و"سموك" وكل حاجة، وفى حدود المعقول برضه ان السيد الوزير ممكن يتكلم عن أى خطط وهمية زى ما هو عايز .. لكن فى حدود المقبول مش المفروض ان ده يستمر لمدة سنتين، أو بمعني آخر كان المفروض ان الاصطدام يحصل من زمان قوي، وخلونا نحسبها بمنطق رياضي فزيائي طبيعي بحت .. العربية الواحدة فى القطار موجود فيها عدد 80 مقعد بناء على ترقيمهم، من المعقول ان العربية تاخد بني ادميين اكتر من العدد ده لكن اكيد فى حد للمقبول يعني ماينفعش انها تاخد 200 بني ادم، بس واقعيا هو ده اللى بيحصل، يعني فى تناقض ما بين كل من حد المعقول وحد المقبول، وحسب قوانين الفيزيا لازم يحصل هنا تصادم ويبان اثره زى ما قلنا، لكن طبعا ده يحصل مع اى حد تانى غيرنا لاننا على رأي جميل راتب فى فيلم "الكيف"، احنا فراعنة والرياضة والفيزيا دول بتوع بلاد بره، يبقوا مايمشوش معانا.

فى كتاب "مكانة مصر" للمؤرخ الراحل د.يونان لبيب رزق، بيستعرض فيه الكاتب مكانة مصر عبر عصور ومراحل مختلفة، من أول محمد على سنة 1805 وحتى عصرنا الحالى، وقسم الكتاب الى فصول وفقا للمراحل المختلفة، وفى الفصل الأخير اللى بيعرض للفترة من 1981 حتى الان واللى بعنوان "الاستقرار فى مواجهة الحصار"، قال د.يونان لبيب رزق ان مصر فى المرحلة دى استطاعت انها تحافظ على استقرار مكانتها بالرغم من كل التحديات التى حاصرتها داخليا وخارجيا، اقليميا ودوليا .

ومع كامل احترامى للدكتور يونان لبيب رزق، وكامل تقديري وحفظي لمكانة الرجل، من الواضح للكفيف ان مكانة مصر فى الفترة دى بالذات فى تدهور مضطرد على كافة الأصعدة، ويمكن المفارقة ان السبب هو الاستقرار برضه، بصرف النظر بقي عن استقرار ايه، سواء كان استقرار قضبان السكك الحديدية، أو استقرار السيد محمد منصور فى كرسي الوزارة، أو استقرار الـ 200 بني ادم فى العربة اللى سعتها 80 مقعد، أو استقرار الأهرامات فى الجيزة علشان تفكرنا دايما بالفراعنة اللى كانوا بيعشقوا الاستقرار. وبعيدًا عن أى تسميات، كلمة الاستقرار دى مجرد تخفيف للفظ أكثر حدة، لفظ أوله "ح" وآخره "مار" .