Sunday, April 7, 2013

ا ب ت... ذال




"سي السيد"
من أهم الإكليشيهات في الثقافة المصرية، ومضرب المثل في ديكتاتورية الزوج المصري أو الرجل الشرقي، والاكليشيه ده بيشتغل برضه من الناحية التانية زي الجاكيت اللي ممكن تلبسه ع الوشين كده، فتقدر تعتبره برضه مضرب المثل في اضطهاد الزوجة المصرية أو المرأة الشرقية. والأصل في الإكليشيه ده شخصية "السيد أحمد عبد الجواد" في ثلاثية الأديب المصري الكبير "نجيب محفوظ" والتي تعتبر من أهم روافد الثقافة المصرية اللي تشبعنا بيها من واحنا صغيرين سواء من خلال الفيلم اللي قام فيه "يحيى شاهين" بدور سي السيد، أو المسلسل اللي قام فيه "محمود مرسي" بنفس الدور، الاتنين كانوا عباقرة بصراحة بس ماعلينا ده مش موضوعنا، المهم ان الإكليشيه ده أصبح من أهم مفردات ثقافتنا المصرية، اللي بين قوسين كده "سمعية".
وسمعية دي معناها ان الغالبية العظمي من اللي بيستخدموا الإكليشيه ده عارفين مصدره من الفيلم أو المسلسل مش من الرواية، وده معناه بشكل أخر اننا شعب غير قارئ. وبناء علي الاكليشيه ده، الناتج من الثقافة السمعية دي، احنا اعتبرنا فعلا ان هي دي شخصية الزوج المصري أو الرجل الشرقي أيام زمان، انه كان ديكتاتور، وكان متزمت، وكان صارم، وكان بيأمر فيطاع، واقلب الجاكيت بقي علي الناحية التانية هتلاقي ان "أمينة" اللي هي زوجة "سي السيد" هي كمان بتعبر عن شخصية الزوجة المصرية أو المرأة الشرقية أيام زمان، وانها كانت ضعيفة، ومضطهدة، ومالهاش رأي، وبتغسل رجيلين جوزها في مية وملح، وبتقوله يا سي السيد حتي لو هو ماسموش السيد، وكل ده زي ماقلنا كان أيام زماااااااااااااان.
أيام زمان دي بقي اللي هي امتي؟؟ أحداث الرواية بتبدأ سنة 1919 يعني بعد عشرين سنة كاملين علي صدور كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين سنة 1899، يعني السنة اللي المرأة المصرية خرجت فيها للمشاركة في المظاهرات لأول مرة في التاريخ المصري، يعني السنة اللي المرأة خلعت فيها البرقع وأصبحت دعوي قاسم أمين لسفور النساء واقع متحقق.. الجميل في الأمر ان نجيب محفوظ نفسه قال في الرواية وفي مواضع كتيرة جدا ان شخصية "السيد أحمد عبد الجواد" كانت الشكل المتطرف من الرجل الشرقي المحافظ، وانها كانت الاستثناء مش القاعدة، حتي ما بين أصدقاؤه التجار اللي من نفس الشريحة الاجتماعية والثقافية كانوا بيعتبروه استثناء، بمعني تاني.. الشكل ده من العلاقة الزوجية اللي بيستدعيه الإكليشيه كان موجود فعلا في الفترة دي في المجتمع المصري، بس كان الاستثناء النادر مش القاعدة الغالبة، لكن اللي حصل اننا عملنا من الاستثناء ده اكليشيه واديناله معني مختلف تماما عن الأصل اللي هو خرج منه، والعملية دي بيتقال عليها "ابتذال".. وهو ده عنوان التدوينة اللي اعتقد ان في ناس – مش عاوز اقول كتير- مافهمتوش.
اللي حصل اننا ابتذلنا الفكرة كلها، فرغناها من مضمونها تماما، وعملنا منها اكليشيه، وادينا له المعني السطحي اللي خرجنا بيه من فكرة الرواية أو الفيلم أو المسلسل، وده طبيعي جدا انه يحصل في ثقافة.. بين قوسين "سمعية"، وبناء علي الثقافة السمعية دي احنا مش بس ابتذلنا فكرة في رواية من روايات نجيب محفوظ، ده احنا ابتذلنا أدبه كله، وصدقنا الإشاعة اللي بتقول انه حصل علي جايزة نوبل علشان صور ربنا والرسل في رواية "أولاد حارتنا"، لدرجة انه تعرض لمحاولة اغتيال فعلا علي ايد أحد شباب الجماعات المتطرفة، واحنا صدقنا الإشاعة حتي من غير ما نقرأ الرواية ونتأكد بنفسنا من اللي سمعناه.
ليه العنوان "ابتذال" مكتوب بالطريقة دي (ا ب ت... ذال)؟؟ لأن الابتذال جزء أصيل من الثقافة السمعية، وبالتالي هو جزء أصيل من الثقافة المصرية، حاجة كده زي الأبجدية (ا ب ت ث ج .....إلخ) وعلشان كده تلاقينا بنمارس الابتذال ده في كل حياتنا، وأكبر دليل علي كده اننا مشهورين بخفة الدم، والسخرية، والألش مؤخرًا.. دي فعلا حاجة جميلة مش وحشة، انك يبقي عندك القدرة علي السخرية والضحك وتوليد النكتة حتي في أحلك المواقف وأصعبها، لكن احنا بنعمل الموضوع ده بزيادة شوية، بضمير حبتين، فبيوصل لدرجة الابتذال، زي بالظبط ظاهرة الأقوال المأثورة اللي ظهرت علي الفيس بوك من فترة، واللي من خلالها ابتذلنا كل رموز ثقافتنا اللي "مش سمعية"، أيام ماكان عندنا ثقافة مش سمعية، وقييس علي كده بقي لحد ما توصل لأكبر وأهم مثال في موضوع الابتذال ... "الثورة"
لما تيجي تتكلم عن الثورة لازم تقول "الـ18 يوم" علشان تفرق ما بين بداية الثورة و...... اللي احنا وصلنا له دلوقتي، وتلاقي الناس بتتكلم عن الـ18 يوم دول كأنهم حاجة كده خيالية، وانهم مش زي اللي بيحصل اليومين دول، وان التحرير دلوقتي مش هو التحرير بتاع الـ18 يوم، وان المظاهرات الأيام دي مش زي المظاهرات في الـ18 يوم.. والسبب في ده هو نفس الفكرة.. "الابتذال"، احنا ابتذلنا حتي فكرة الثورة وفرغناها من مضمونها، فأصبحت حاجة كده مجوفة مالهاش نفس المعني بتاع "ثورة الـ18 يوم"، فيبقي طبيعي جدا بعد عملية التفريغ دي ان واحد زي "أحمد الطيب" شيخ الأزهر يبقي بطل ثوري، مع العلم انه هو نفس الشخص اللي كان من زبانية ومنافقي نظام مبارك، ونفس الشخص اللي وقف ضد الثورة في الـ18 يوم، ونفس الشخص اللي باع البلد كلها ووافق علي تمرير دستور الإخوان في مقابل انه يُخلد في منصبه، تحول فجأة لبطل ثوري بس لمجرد انه أصبح علي خلاف مع الإخوان.
ثقافتنا المصرية، اللي هي بين قوسين "سمعية" هي اللي خلتنا ابتذلنا ثلاثية نجيب محفوظ في اكليشيه "سي السيد"، وهي اللي خلتنا ابتذلنا تاريخ الراجل كله في إشاعة سمعناها، وهي اللي خلت شاب -كل معلوماته عن نجيب محفوظ وصلت له من خلال السمع- يحاول يقتله وهو فاكر انه كده بيجاهد في سبيل الله، وهي كمان اللي خلتنا ابتذلنا "الثورة" ووصلنا للي احنا فيه دلوقتي.
"... وإن هذه المحاولة لا تهدف إلي وضع نجيب محفوظ بين الكتاب الإسلاميين بالمعني الضيق لهذا المصطلح، وهي إذ تتجه إلي التحفظ والتوضيح، تدل في النهاية أن الصورة التي رُسمت لأدبه وشاعت علي أيدي بعض نقاده، كانت مغرضة إلي حد كبير، وأن نقادًا أخرين بصَمْتهم عنه قد أسهموا إيجابيا في تأكيد هذه الصورة المغرضة، كما أسهموا من قبل في تعميق مفاهيم معينة عند الكاتب، لأنه لم يجد من يناقشه، أو يوضحه، أو.. يوضح له" { من كتاب "في أدب نجيب محفوظ" - تأليف د.محمد حسن عبد الله - صــ 456}
================================
محمد عوض
مدونة سقراط