Friday, August 27, 2010

ابنتها





"أتعرف أن الإنسان لا يحس بوجوده إلا إذا رُزق الولد، إنه من قبل كالمطر ينحدر علي التلول ويتفرق في الوديان، ولا تعلو قامته في مكان رغم غزارته، ثم انظر إلي الولد حين يعانق أباه، تجد ذراعيه كالضفتين تحتجزان هذا الماء المضاع فيصبح نهرًا له حياة معلومة ومجري مرسوم ومبدأ وغاية." *
كنت غارقًا حتي الثمالة بين تلك السطور التي خطتها تلك الأنامل العبقرية للرائع يحي حقي، عندما أتاني صوتها الهادر ليوقظني علي أحلي هدايا القدر متسائلةً في أدب جم:
- أبحث عن كتاب بعنوان "صح النوم" لـ يحي حقي، هل لديك نسخة منه؟
- أظن أن لدي نسخة من الأعمال الكاملة ليحي حقي قد يكون هذا الكتاب من ضمنها.
أجابها البائع بصوته الأجش بينما عيناه تجوبان تلك الأكوام من الكتب الملقاة علي الرصيف، والمتراصة في عشوائية كنجوم منثورة في سماء غائمة، لا يُهتدي بها ولا إليها.
نزلت اللحظات التالية بي منزل الحمي بالمحموم، فقد انقضت دون أن يتنامي إلي وعيي أنني أحمل مقصدها بين راحتي هاتين .. وأخيرًا خرجت عن صمتي متعلثما:
- هـ هذه هي .. صح النوم.
فقالت وقد تهللت أساريرها:
- حقا؟ .. ولكن ألم تكن علي وشك شرائها؟
- بوسعي البحث عن غيرها.
- لا .. أنا لن أرضي بذلك .. أنت سبقتني إليها.
- سأتركها لك عن طيب خاطر.
- أشكرك بشدة ولكني لن أرضي.
وفي تلك الأثناء كان البائع قد عثر علي نسخة الأعمال الكاملة، وبدا أنه لم يعد هناك دافع مقنع لإصراري، فشكرتني مرة أخري وهي تعطيني الكتاب، وتناولت نسخة الأعمال الكاملة من البائع، والتي من حسن طالعي بذلك اليوم لم تحو قصة "صح النوم"، فعرضت عليها أن نقوم بتبادل الكتابين، ففي ذلك ما يرضي كلانا، وكانت ابتسامتها العذبة خير إشارة علي الموافقة فسألتها في اهتمامٍ غير مفتعل:
- أتستهويكِ كتابات يحي حقي؟
- ليس بعد، ولكني قرأت شيئًا يسيرًا من قصة صح النوم بإحدي المكتبات العامة، وجذبتني إليها بشدة فعزمت علي اقتنائها.
لم يدم الحديث بيننا طويلا، ولكن وقع كلماتها القليلة في نفسي دام لسنوات طويلة بعد ذلك. سألتها أن تحتفظ بالكتابين معًا، فلدي الكثير من كتابات يحي حقي فهو كاتبي المفضل، ولكنها أبت، وذكّرتني بأن اتفاقنا بشأن تبادل الكتابين كان للعدل فيما بيننا، فبادرتها بنبرةٍ مترددة:
- إذن فلتكن استعارة.
- استعارة؟
- نعم، يمكنك استعارته مني بوصفي مالكه المستقبلي.
فقالت مدارية ابتسامةٍ خجولة:
- وأني لك استعادته أيها المالك المستقبلي؟
- إن قٌـدر لنا اللقا.

أخبرتها أني دائم التردد علي هذا المكان لابتياع ما يلزمني من كتب، فازدادت بسمتها كاشفة عن أسنان نضيدة ناصعة البياض، فاستطردت بأنه إن قُدر لنا اللقاء سيكون بنفس المكان. واتفقنا، وافترقنا، وبعدما غابت عن ناظري تذكرت أني لم أسألها عن اسمها، وأنها لم تعرف اسمي.
شهر كامل انقضي لم أنقطع فيه عن زيارة المكان، أقضي ما يزيد علي الساعة أقلب الكتب بين يدي دون أن أشتري منها شيئا، أتنقل بين صفحات الكتاب دون أن يعلق بذهني منه حرفا، أحاول جاهدًا الفكاك من أسر ذلك الملاك الذي أهديته قلبي طي كتاب، لكن بلا جدوي، إلي أن كان اليوم الثالث بعد الثلاثين، كنت علي وشك الأفول إلي بيتي منكسر الخاطر كالعادة، عندما أقبلت .. هي هي .. بابتسامة مشرقة، تحمل حقيبتها بارزًا منها إحدي طرفي الكتاب. قابلتها بفرحة أكبر من أن تستوعبها قلوب البشر مجتمعة، سألتني والابتسام لم يفارقها:
- كيف حالك؟
فردّدت كلماتها كالأبله:
- كيف حالك؟
- بكل خير.
- لم أسألك عن اسمك في المرة الفائتة.
- هند
- محمد

... إنه ذلك النداء الذي يذهب بكل عقلي، تلك الكلمة التي تنطقها بتحريف محبب إلي قلبي تلك الأميرة التي لم تتعلم المشي بعد، عندما تزحف نحوي علي أربع مرددة "بابا"، والتي لا أملك إزاءها سوي ترك القلم لتبقي كلماتي بلا بقية سوي أن تلك الأميرة الصغيرة هي ابنتها.
=========
ملحوظة
الفقرة الأولي من قصة "صح النوم" لـ يحي حقي

Wednesday, August 18, 2010

كانت خبرتي الثانية

كانت خبرتي الثانية، كان التوقيت نفسه أو ما يقاربه، كان الميدان يميد في أضوائه البرتقالية تطل عليه من علٍ، والمارة يحثون في خطوهم خشية السيارات الكثيرة المسرعة التي يعج بها الميدان. لم أكد أتخطي التمثال المقام للفريق أول عبد المنعم رياض، وإذا بغية من الحمام {والتعبير للقرموطي} تتخطاني مسرعة صوب قائد لها يحمل فوق كتفيه كلتيهما نجوما نحاسية تشي برتبته وتعطيه الحق في نهر المارة فضلا عن أفراد سرب الحمام التي اتخذت موقعها علي الرصيف المقابل مولية دبرها للطريق لمنع المارة من اجتيازه لحين عبور الموكب.

اتخذت مكاني أنا الأخر بين أقراني ممن حكم عليهم حظهم بملاقاة الموكب المهيب. أدرت نظري فيمن حولي فإذا بهم كمن تعلوهم الطير، أما أنا فغمرتني نشوة عارمة لإدراكي خبرتي الثانية بعد أعوام ثلاثة. لحظات قليلة وانقطعت السيارات عن المرور، وخلي الميدان إلا من المارة المحجوزين تعلوهم الطير مابين النسور والحمائم، وبدا التمثال، المشير بإحدي سبابتيه كأمثاله علي رؤس الكباري والميادين، في حيرة من أمره، وكأنما يخشى أن يتم ضبطه متلبسا لإشارته غير اللائقة نحو الموكب الذي مرق مخترقا الميدان الخالي وكأنما يمضي لأمرٍ جلل، تحيطه أبواق سيارات الأتاري، وتتقدمه سيارة التشويش وقطع الإرسال، وتأتي في إثرها درة الموكب الداكنة التي يزيدها اللون الأسود رهبة علي رهبة، وجلال علي جلال.

بمرور الموكب أخذت الحياة في الميدان تعود لسيرتها الأولي، انصرف الناس إلي مقاصدهم، وعاد أفراد سرب الحمام إلي مواقعهم، وعادت السيارات إلي جريها الأهوج، واستكملت أنا الأخر طريقي قاصدًا المقهي، مستعيدًا خبرتي الأولي، فللخبرة الأولي رونقها مهما تعاقبت عليها الخبرات... كنت برفقة أحد أصدقائي نتجه سيرًا إلي التحرير بحثا عن كتاب ما، كنا نتجاوز ميدان التحرير عندما كان صديقي يحكي لي عن تلك الواقعة التي شهدها بنفس المكان، عندما كان في طريق العودة إلي منزله في ساعة شديدة الحرارة توقفت فيها الحافلة وطال وقوفها حتي جزع الناس وتساءلوا عن السبب، ومرقت الإجابة سريعة متمثلة في موكب مماثل يخترق الميدان. وبينما صديقي يتابع حكيه اعترض طريقنا أحد المارة قائلا بصوت غليظ:
- مكانك يا كابتن .. اقف مكانك لغاية ما الموكب يعدي.

وقفت وصديقي مشدوهين من أثر الصدمة، فمثل تلك الصدفة لن تتكرر كثيرًا، صدفة لن نتوقف عن سردها في كل مجلس سمر ننزل به، أما أنا فلم أكن أتخيل أن خبرتي الأولي ستأتي بهذه السرعة.
مكثنا علي ذهولنا دقائق إلي أن مرق الموكب وأُذن لنا بالمرور فاستكمل صديقي روايته قائلا:
- بس الموكب ده أصغر من اللي انا شفته، التاني كان أكتر من عشر عربيات، ده أربعة بس.
وهنا تدخلت المرأة التي كانت تعبر الطريق إلي جوارنا حاملة طفلها الرضيع قائلة:
- التاني ده زمانه كان حمار كبير، انما ده جحش صغير.


ملـحوظة
إلي صديقي حامد .. رفيق خبرتي الأولي وخبرات أوْلي كُـثُـر، من مجلسي هنا علي مقهي "أفتر إيت"، وحيث حجر التفاح الثاني علي وشك –بتسكين الشين- الانتهاء ... تحياتي.
محمد عوض