تصاحبني منذ صغري صفات ثلاث تتمثل في كوني متمرد، عصبي، ثوري الطبع والطابع، وهو ما كان يتنافي في كثير من الأحيان مع كوني شديد التفاؤل، وقد تكون تلك المفارقة هي ما منعتني عن التخلف عن أيٍ من الجُمَع الثلاث طوال الثماني عشرة يوما التي أطاحت بذلك المبارك، لا بارك الله فيه (التعبير للدكتور سيف الدين عبد الفتاح) ولا في نسله الرضي.
لم أشارك بمظاهرات الخامس والعشرين من يناير رغم وجودي بالتحرير ذلك اليوم ولكن ذلك كان بعد ان قامت عساكر الامن المركزي بإغلاق الميدان علي من فيه، وبلغت مني السعادة مبلغا عظيما عندما أدركتني جمعة الثامن والعشرين وانا في التحرير أتنسم أولي نسمات الحرية يختلط بها ذلك الغاز المقيت الذي يدفعك دفعًا إلي الحرية لا إلي الاختناق.
وبلغ مني الحزن مبلغًا أعظم عندما تخلفت عن موقعة الجمل، بعد قرارٍ بالعودة إلي المنصورة مسقط رأسي، دفعني إليه تفاؤلي الفطري الساذج، وإلحاح أمي القلق. ثم أدركتني جمعة الرابع من فبراير وانا في التحرير، بعد يومين فقط من موقعة الجمل حيث الميدان لم تزل عنه رائحة دم الشهداء بعد. وأخيرًا أدركتني أسعد لحظات حياتي علي الإطلاق عندما سمعت خطاب التنحي من إحدي منصات التحرير جمعة الحادي عشر من فبراير، وليس من أي مكان أخر في الدنيا.
"العيال بتوع التحرير كانوا طالعين علي مقر المجلس العسكري، فاكرينها فوضي، بس أهالي العباسية طلعوا عليهم وادوهم علقة تمام، علشان يلزموا حدودهم ويتعلموا الأدب، ويفضونا بقي من القرف ده"
هكذا قال لي صديقي طه عندما هاتفته مساء الثالث والعشرين من يوليو أسأله عن أخبار تلك الحادثة التي ذهب البعض إلي تسميتها موقعة الجمل الثانية، لم يكن يشغلني موقف طه مما حدث، فهذا هو موقفه من الثورة كلها، وأعتقد أن السبب الوحيد لذلك هو أن الثورة مثلت تهديدا حقيقيا للفانوس الشمال في سيارته المستوبيشي أو المتسوبيشي لا أعرف أيهما الأصح، ولكن كل ما شغلني هو حزني الشديد لتخلفي عن موقعة الجمل الثانية، وصرت أتساءل في جزع شديد، تري هل ستكون هناك موقعة جمل ثالثة؟
كنت دائما ومازلت علي اعتقادٍ راسخ بأننا كمصرين أحفاد الفراعنة عشاقًا للاستقرار، وقد تكون تلك هي لعنة النيل وهبته في الوقت ذاته، فلولاه لما اجتمعنا حول واديه العظيم وتركنا ثلاثة أرباع البلد خاوية علي أساس أن النيل الذي نعرفه أحسن من الصحراء التي لا نعرفها، ولولاه لأطاح موسي بفرعون دون الحاجة إلي معجزة تشق البحور، ولولاه أيضا لأطحنا نحن بفرعوننا دون أن ندفع الثمن دماءًا فتية.
طه ما هو إلا ضحية للعنة وادي النيل، ضحية نظام مستبد أنشئنا علي السموم طعاما لعقولنا وبطوننا، عودنا ألا نري وألا نسمع وألا نتكلم إلا بما تمليه علينا تلك السموم التي تنفثها أبواقه الرسمية وغير الرسمية، نظاما علمنا أن بقائه فيه خلاصنا، وأن زواله فيه هلاكنا. بعد حديثي مع طه سألت نفسي؛ ماذا سيكون حال طه لو أدركتني إحدي موقعتي الجمل وهلكت فيمن هلكوا فداءًا لهذا البلد وفداءًا لطه، وأخذني هذا السؤال لخاطر أفزعني بشدة، وهو أني كنت وحيدًا طوال تلك الجمع الثلاث، تخلف عني كل أصدقائي عدا الجمعة الأخيرة التي صاحبني فيها العربي والاسمعلاوي، فبعد الخطاب الأخير لذلك المخلوع ليلة الخميس العاشر من فبراير، خرجت كالأبله أنهر الناس علي ترك الميدان، وأقسمت ليلتها أني لن أبرح هذا المكان حتي ينزل هذا العجل السمج عن كرسيه اللزج أو أهلك كمن هلكوا ثمنًا لحرية لم يروها، وهأنذا أجدد السؤال علي كل أصدقائي، وكلهم من رواد مدونتي وقرائها، ماذا ستكون حالكم إذا أسلمت روحي لبارئها بموقعة جملٍ ستقبل أو مضت، هل سيكفيكم حزنكم الصادق علي صديقٍ ولي؟ أم ستهبون لنصرتي ونصرة بلدكم؟
محمد عوض