Saturday, February 27, 2010

مرايــا فاضحة

اللوحة للفنان المصري/ صبري راغب
مالت عليها صاحبتها توشوشها، فتوقفَت عن المضغ فجأة وتفكرت هنيهة، ثم بدت بعينيها نظرة تفيض بالجرأة والشقاوة تنم عن طفلة في جسد آنسة. كانت قد اتخذت قرارها وبدا أنها لن تتراجع عنه مهما كانت العواقب. لحيظة هي كل ما تحتاجه، وهي عمر التجربة التي قد تندم بعدها. ولكنها لم تبد من ذلك النوع الذي يمنعه الخوف عن إتيان تجربة شقية. لحيظة وتنتهي تلك المغامرة لكن أثرها في النفس سيدوم طويلا، لحيظة ستمر سريعًا، لن تدرك متي تبدأ وكيف تنتهبي ولكنها تعلم جيدًا ذلك الشعور بالنشوة الذي سيتخلف بمرورها في نجاح.

وبالفعل كانت لحيظة هي تلك المسافة التي قطعتها يدها ذهابًا وإيابًا إلي ومن الطبق ذو المخلل الموضوع إلي جواري، لحيظة ذهبت في مطلعها بيد خميصة، وعادت في نهايتها بيد محملة بإحدي تلك القطع الملونة التي ازدحم بها الطبق. عندها فقط عرفت السر وراء تلك النظرة الجريئة الشقية، وعرفت أيضا عن ماذا كانت وشوشات صاحبتها لها.

حاولت الإمساك عن الضحك ما أمكنني ذلك وساعدتني صورتي المرسومة أمامي، بفعل تلك المرايا التي تعلو كل الجدران من حولي، علي التماسك. وانتبهت فجأة إلي تلك الذلة التي وقعت فيها تلك الفتاة الجريئة، فلم تتوقع أن المرايا ستفضحها، ولم تُلق بالا لها طالما كنت أنا مثبتًا ناظري بطبق المكرونة وحده غير آبه بالطبق الآخر. خُيل لها أنها قد ظفرت بغنيمتها ولم تكن تعرف أن هناك مرايا تراقبها ولن تتواني عن فضح أمرها.

كنت دومًا أتساءل عن نفع كل تلك المرايا. المطاعم هنا بالقرب من الجامعة تتبع تصميمات مختلفة إلا أن القاسم المشترك فيما بينها هي تلك المرايا وذلك البار. هو ليس بارًا بالمعني المعروف للكلمة، فهو يختلف عنه بعض الشيء. فليس هناك في الجهة المقابلة منه من يخدمك، ليس هناك سوي تلك المرايا تعلو الحائط المقابل، وفي الغالب ليست هناك أية كراسي، فأصحاب المحال هنا لن يفضلوها علي أية حال، فمن شأنها تقليص المساحة وإزحام المكان، فضلا عن عدم نفعها لرواد تلك المطاعم، فالأمر لن يتطلب سوي دقائق قليلة لن تضطر خلالها للجلوس لتتناول إحدي تلك الوجبات السريعة، وقد يكون ذلك هو السر في نعتها _ أي الوجبات_ بتلك الصفة.

علي كل حال انطوت حكايتي هي الأخري علي سرٍ أخر لم يعرفه غيري. فذلك الطبق ذو المخلل لم يكن لي بأي حال من الأحوال، فأنا لم أكن أفضل المخلل نظرًا لما يسببه لي من مشاكل تتعلق ببثور الشباب، لذا كنت دائم العزوف عنه. ولهذا فالطبق لم يكن لي، وإنما تصادف وجوده بالقرب مني. تركه جاري في البار بعد انتهائه من وجبته، وعندما مر العامل لرفع الأطباق التي ذهب عنها أصحابها اعتقد هو الآخر أنه لي، فتركه إلي جواري ورفع باقي الأطباق، وكنت أنا شاردًا بذهني بعيدًا فلم اهتم لذلك. انهمكت في شرودي وفي طبق المكرونة الذي أفضله علي غيره من المأكولات الأخري التي يعج بها مطعم "صبري". تنقلت بين كل المطاعم المحيطة بالجامعة إلا أني لم أجد من يفوق صبري في صنع تلك المكرونة، كما أني أشعر بارتياح شديد للمكان، ألفته من سنين حتي ألفني هو الأخر كما ألفني عُماله وبخاصة "الكاشير". اعتدت معه تبادل النكات والضحكات. اليوم لم يدم الكلام بيننا. طلبت منه طبق المكرونة، وسألني باهتمام غير مفتعل: أين صديقك؟ فقلت باقتضاب مقصود: لم يأت. نعم لم يأت، اعتدت المجيء هنا برفقته ولكنه اليوم لم يأت، ولأنه لم يأت كانت فرصتي كبيرة للإجهاز علي نفسي. نعم الإجهاز علي نفسي. كانت تلك _كالعادة_ إحدي وصلات مسرحية حياتي التي تأبي الانتهاء. أستميت في محاولاتي لفت أنظارها وافتعال الأسباب لمحادثتها، وتذهب هي ومعها محاولاتي غير المنتهية أدراج الرياح. بانتهاء المحاضرات لذلك اليوم يتنهي فصل أخر من تلك المسرحية التي أقوم فيها بالدور نفسه كل يوم، فتذهب هي برفقة صديقاتها، وآتي أنا إلي هنا لتناول المكرونة وأجهتد في إعمال التنكيل بنفسي التي لا أدري هل أرهقتها أنا بما لا تحتمل؟ أم هي التي أرهقتني بما أبغاه وتعجز هي عن إتيانه؟ ومع كل ذلك لم أكن غائب الوعي تماما، كنت مدركًا لكل ما يحيط بي، غير أنه لا يمثل لي سوي بحر من الصمت اللامتناهي تزحف أمواجه غاضبة صوب شطي، غير أنها ما تلبث أن تهدأ ثورتها بمثولها بين يديه، فتنحني في استسلام وتتراجع مخلفة دموعها الأُجَـاج علي رماله الناعمة.

لم أسمع كلمات صاحبتها لها، ولكن بعد أن فضحتها المرايا، لم يصعب عليّ تخمينها. كان أن اشتهت صاحبتها المخلل. مالت عليها حتي تحجب الكلمات عن سمعي. كل ما تريده هو إحدي تلك القطع الكثيرة المنثورة بالطبق والتي يرغب عنها صاحبها. حاولت الإمساك عن الضحك ما استطعت ولم تخني نفسي، فقد ألفَت شدتي علي ما يبدو، غير أن حالي تبدلت وصرت أكثر طوعًا لها. تناسيت همي للحظة وجعلت أتفكر كيف أباغت تلك الشقية بذَلتها التي لم تعمل لها حسابًا.

ووقعت أنا في الخطأ نفسه والذلة ذاتها،لم أكن أعرف أن تلك المريا لها تلك القدرة السحرية علي النفاذ بداخل النفوس وفضح أصحابها.لم أنتبه للحظة أني علي وشك شق مجري للحديث مع فتاة لا أعرفها،لم يدر بخلدي أني علي وشك القيام بالدور نفسه ولكن في مسرحية مغايرة، ذلك الدور الذي فشلت في أدائه علي مدار السنتين المنفلتتين في مسرحية بطلتها هي الإنسانة الوحيدة التي أهتم لأمرها بهذا الكوكب.

افتعلت الهدوء التام حتي واتتني الفكرة. لحظة هي كل ما أبغي، لحظة هي عمر الفكرة التي ستترك أثرا يدوم طويلا. انتهيت سريعًا من طبقي، مسحت آثار الطعام بمنديل، تنفست بملء رئتي، وألقيت بنظرة أخيرة علي تلك المرايا الفاضحة قبل الإقدام علي تلك اللحظة. التففت مواجهًا الفتاتين، تناولت إحدي تلك القطع الملونة التي ازدحم بها الطبق ذو المخلل، اقتربت من تلك الشقية، و باغتها بعد أن قضمت إحدي طرفي قطعة المخلل قائلا: علي فكرة .. المخلل ده مش بتاعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبها: محمد عوض "سقراط"

10 اتكلموووووو:

Unknown said...

عزيزي سقراط
اسلوبك جميل اوي بجد لا وعجبتني اوي المقدمه اللي هيا ال shock
بص مش عارف اقولك اتشديت اد ايه يا راجل التي شيرت اتقطع من كتر الشده ههههههههه
لااسلوبك كويس
علاء ريحان

سقراط said...

يا باشمهندس علاء الف سلامة علي التي شيرت بتاعك
منور الدنيا كلها يا برنجي
وجراثيس خالص ع البوقين الجمال دول
ويا رب نفضل عند حسن ظنك

عمرو said...

أهلا سقراط
القصة جميلة جدا, حلو فيها البداية والنهاية, وحلوة حكاية المرايات, بس فيه شوية ملحوظات
أولا بعد الكلمات تقيلة على اللسان وبتعمل مشكلة في القراية زي حميصة ولحيظة وغيرها
ثانيا تفصيلة الصديق مش مهمة قوي ادخل على طول في اللي انت عاوزه
القصة من حيث الفكرة والهيكلة أكثر من رائعة لكن اللغة محتاجة سنفرة يا عزيزي
أرجو إني ما أكونش زعلتك مني.. أنا بس قلت اللي حسيته وده مش معناه إن كلامي صحيح بالضرورة, بس أنا اتكلمت عن انفعالي وتفاعلي مع النص بغض النظر عن كاتبه الذي أكن له كل حب وتقدير
دمت مبدعاً يا سقراط :)

عمرو said...

على فكرة أنا شفت صورتك النهادة على فيس بوك.. انت اقتصاد وعلوم سياسية؟ ربنا يوفقك
:)

سقراط said...

دكتور عمرو
اولا يا سيدي انا ما زعلتش اطلاقا من كلامك
بالعكس ده فرحني جدا
لاني طول مانا بكتب ببقي شايف ان اللي انا بعمله هو الصح
وبراجع كذا مرة وبغير كتير لغاية ما برسي علي بر
بس اول ما بنزل الكلام ده في المدونة
بفقد كل قدرة علي قراية النص مجرد قراية
وبحس اني عكيت الدنيا
فلما اسمع التعليقات دي منك بالذات اكيد هاكون سعيد
لاني عارف ان قرايتك مش مجرد قراية سطحية او عابرة
اما بخصوص ملحوظتينك
فانا متفق معاك فيهم
السبب الاول والاهم هو اللي انت قلته
ان الموضوع محتاج شغل وسنفرة
ودي حاجة ماتزعلنيش ابدا
لاني عارف ومقدر تماما اني مجرد هاوي
ومبتديء كمان
وكل مصادري المتاحة هي القراية
ولا شيء اخر
بحاول اتعلم من كل حاجة بقراها
انا ماكرهش اني اتعلم من مصادر تانية
لكن ده مش متاح ليا لاسباب مختلفة
انا مش عاوز اطول لكن هاعلق تعليق اخير علي ملحوظتك التانية
فكرة الصديق فعلا كانت هامشية قوي
لكن كانت اهميتها بالنسبة لي هي اني احافظ علي التسلسل
يعني كنت باعتمد في تسلسل الاحداث علي ان كل فكرة تسلم اللي بعدها
(المكرونة - المطعم - العمال - الكاشير - الصديق - الراوي)
وكان في ابعاد تانية ممكن اضيفها لمساحة الصديق
لكن خوفي من ان الموضوع يوسع مني
واستعجالي الشديد في اني اخلص حاجة
هما اللي اتسببوا في خروجها بالشكل ده
مرة تانية وتالتة بشكرك جدا علي اهتمامك
وعلي رأيك اللي انا متأكد انه بناء
وعلي فكرة القلوب عند بعضيها
دمت بكل خير

Haytham Alsayes said...

اسلوبك بجد جميل جدا
تقبل تحياتي ومرورى

سقراط said...

Haytham Alsayes
ربنا يخليك يا هيثم علي رأيك الجميل
ويا سيدي انت تنوري في أي وقت
دمت بكل سعادة

عجوز مخرف said...

أعجبنى كثيرا التشبيه الخاص بأمواج الصمت..أ..لامؤاخذة..كيف حالك أولا يا حفيدى العزيز..كنت أقول أن موضوع دموع أمواج الصمت هذا أعجبنى كثيرا وكذلك موضوع التنكيل بالنفس..أمارسه كثيرا..لا أنوى تلويث تدوينتك الجميلة بتناولها نقديا لأننى لا أجيد ذلك ولأن التدوينة جميلة بالفعل..فقط أردت أن ألقى اليك نصيحة من جد عجوز أكول

لا تأكل أمام مرآة أبدا..ليست تجربة ممتعة على الاطلاق


ولا تتغيب كثيرا..سيفصلك الوزير الجديد ابن الوزير القديم

سقراط said...

جدو العزيز
وحشتنا جدا جدا
يظهر يا جدو اننا من عجزنا وممن قلة حيلتنا بنشطر علي روحنا بس
يعني حاجة كده زي المثل اللي بيقول
ما قدرش علي الحمار بيتشطر ع البردعة
عموما لغاية ما نقدر ع الحمار اللي بالي بالك
ربنا يصبر نفسنا عيلنا
اما بالنسبة لنصيحة الاكل قدان المراية
انا شخصيا بطلته
لكن الدور والباقي علي بطل الحدودتة
هو اللي لسه ما تابش
اه صحيح
ايه حكاية الوزير الجديد والقديم
ما فهمتهاش دي
هاستني اشوفك بقي وتقولي
ولغاية ما اشوفك
دمت بكل هنا وسعادة يا جدو العزيز

Mohamed AbdAllah said...

سلام عليكم عزيزي العظيم , كما أحب أن أناديك دائما . قد لاتكون افضل من احب اقرأ لهم , ولكني ولا شك ممن يستمتعون عندما يقوؤن لك , تبدع فتحكي , وهذه طريقتك دائما ...................................................................................................
قصتك قصة قصيرة ولكنها مبدعة تجعلك تشعر انك تقرأ لكاتب كبير دون مزايدة , لن أخوض في ما كتبت , ولكني سألخص ردي بعد سنة . اني كلما راجعت تدويناتك كلما استفيد والحق ما فاتني , لانك عندما تاكتب فأنا مع موعد من المتعة .