Wednesday, May 6, 2015

The Grand Budapest Hotel.. وأيقونة أندرسون المتفردة



"في حين أن الممثل هو العنصر الرئيس في فن المسرح، فإن المخرج في فن السينما هو العنصر الرئيس والأهم. والفيلم وإن نُسب -تجاريا- إلي بطله، أو إلي منتجه، إﻻ أنه دائما ما ينسب -فنيا- إلى مخرجه، فيقال (فيلم لـ فلان الفلاني)”

يعجبني دوما الاستشهاد بتلك المقولة وإن كنتُ ﻻ أعرف علي وجه التحديد من قائلها، ربما كنت أنا صاحبها، أو ربما قرأتها هنا أو سمعتها هناك وعمدت إلي ترديدها والاستشهاد بها بين الحين والأخر حتي التصقتْ بي والتصقتُ بها. علي أية حال، طالما تعلق الأمر بفن السينما فابحث دوما عن المخرج. 

 The Grand Budapest Hotel
 أو "فندق بودابست الكبير" من إنتاج عام 2014، والحائز علي أربعة جوائز "أوسكار" من أصل تسعة ترشيحات، للمخرج المتميز Wes Anderson. قد يبدو الفيلم بتعبير الترجمة السينمائية "غريب الأطوار"، معقدا بدرجة ما، عصي علي الفهم أحيانا، ولذلك لن تجد -بعد أن تذرع الشبكة العنكبوتية من أقصاها إلي أقصاها- مقالا نقديا بالعربية يتناول هذا الفيلم ﻻ بالمدح أو التقريع. لكن هذا شأن أفلام "أندرسون" التي وإن بدت غير مفهومة في ظاهرها إﻻ أنها تحمل من القيمة الفنية الكثير.

المخرج
ويسلي ويلز أندرسون. ولد بمدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية عام 1969. كانت لطفولته التأثير الأكبر علي تكوين شخصيته الفنية التي أضفت طابعا خاصا علي كل أفلامه. بدأ شغفه بالسينما منذ الطفولة حيث اعتاد إخراج الأفلام الصامتة التي قام بالأداء فيها أخواه وأصدقاؤه، وباستخدام كاميرا أبيه (super 8) تلك الكاميرا التي ذاع صيتها في الستينيات والسبعينيات وقدمتها شركة كودك باعتبارها نقلة نوعية في مجال الأفلام المنزلية أو أفلام الهواة.

وعلي الرغم من هذا الشغف المبكر للإخراج والكتابة، لم يتجه أندرسون إلي دراسة السينما، وإنما درس الفلسفة بجامعة تكساس. وهناك التقي بصديقه ورفيقه الفني الممثل والكاتب Owen Wilson، الذي شاركه في صناعة عدد من الأفلام القصيرة التي عُرضت في حينها علي شبكات التلفزيون المحلية كان أخرها فيلم Bottle Rocket عام 1994، والذي ﻻقي استحسانا علي نطاق واسع وهو ما جلب التمويل اللازم لأندرسون ليتحول فيلمه القصير إلي فيلم سينمائي طويل عام 1996  وليبدأ به مسيرته الفنية التي امتدت طوال ما يقرب من العقدين من الزمن، قدم خلالها ثماني أفلام كانت حصيلته من ورائها ستة ترشيحات لجائزة الأوسكار ثلاثة منها لفيلمه الأخيرThe Grand Budapest Hotel.

التيمة الفنية
يقولون في الأمثال الشعبية "صاحب بالين كداب"، أما في السينما فكثيرا ما يصدق ذوو البالين، وكثير من المخرجين يميلون إلي الجمع بين الإخراج والكتابة، فيشاركون في كتابة أفلامهم أو يكتبونها بمفردهم، وربما لهذا السبب تتشابه أفلامهم إلي حد كبير، وتصطبغ بصبغتهم الخاصة. هكذا هي أفلام أندرسون الذي شارك في كتابتها جميعا. ولكن ليس لهذا السبب وحده تتميز أفلامه عن غيرها حتي لتقترب من كونها أيقونة سينمائية متفردة، بما يجعل المشاهد لدي تعرضه بشكل عشوائي ﻷي من مشاهد أفلامه -أو "صوره" علي حد التعبير اللغوي بالانجليزية- أن يجزم دون سابق معرفة بأن هذا الفيلم مطبوع بخاتم أندرسون، وإنما لعدد من الأسباب منها:

القالب البصري والسردي
يستمد أندرسون التيمة الفنية المميزة له من عدة عناصر عمد إلي تكرارها في أفلامه، أولها وأهمها القالب البصري والسردي، حيث يعتمد أندرسون علي أسلوب مميز في السرد والانتقال بين الأحداث سواء علي مستوي التصوير حيث الحركة الذكية والمعبرة للكاميرا، أو علي مستوي الكتابة حيث التفاصيل المتداخلة واللعب علي أكثر من سياق زمني في شكل قصة داخل قصة. ففي The Grand Budapest Hotel يبدأ الفيلم في الزمن الحاضر بقصة الفتاة التي تزور النصب التذكاري لكاتب تحمل مذكراته الخاصة بين يديها، ثم تأخذك الكاميرا إلي الكاتب نفسه يجلس إلي مكتبه في العام 1985، الذي يواجه الكاميرا ويبدأ في قراءة الفصل الأول من مذكراته التي تحكي رحلة قام بها إلي فندق بودابست الكبير. ثم تنقلك الكاميرا مرة أخري إلي الفندق في عام 1968، عندما التقي الكاتب بمالك الفندق الذي يروي له كيف أصبح مالكا لهذا الفندق الكبير، ومن ثم تنتقل بك الكاميرا إلي المرحلة الأخيرة والقصة الرئيسية في الفيلم والتي تبدأ أحداثها في عام 1932. وبانتهاء أحداث القصة الرئيسية تعود بك الكاميرا القهقري في الزمن، فتنتقل من الثلاثينيات مرورًا بالستينيات ثم الثمانينيات وأخيرا إلي الوقت الحاضر، في رحلة بانورامية آخاذة الجمال.

الجوانب التقنية
إذا ما تخيلنا أن مباراة ما تجري رحاها بين التقنيات الحديثة (المؤثرات البصرية والسمعية)، وبين الإبداع البشري في فن السينما، فيمكننا القول بمنتهي الأريحية أن "أندرسون" قد تغلب بهذا الفيلم علي التقنيات الحديثة ودحرها في عقر دارها (علي حد تعبير معلقي كرة القدم). فعلي الرغم من انتشار المؤثرات التقنية بأغلب مشاهد الفيلم، إﻻ أن أندرسون برع في تطويعها واللعب عليها -بل والتلاعب بها- لتقديم فيلم سينماتوغرافي (Motion picture)  في صورة فيلم رسوم متحركة (Animated picture)، وهو ما ستلاحظه جليا في أداء الممثلين وحركتهم، حركة خطية مستقيمة تبدو مرسومة بالقلم الرصاص أكثر منها طبيعية، ستري ذلك في مشهد المطاردة علي الثلج، ومشهد الهروب من السجن، وغيرها من المشاهد بطول الفيلم. ستلاحظه أيضا في هيئة الشخصيات وأزيائهم ما يجعل بعض الشخصيات مثل "الشقيقات الثلاثة" تبدو وكأنها كرتونية وليست طبيعية.

وإلي جانب أداء الممثلين، برع أندرسون في توظيف حركة الكاميرا لتساهم في إضفاء تلك الهالة الكرتونية، بالإضافة إلي دورها في "كوميديا الموقف"، ففي أحد المشاهد يذهب "زيرو" لزيارة "مستر جوستاف" في السجن، يظهر "زيرو" في الكادر ضئيلا أمام بوابة السجن الهائلة، يقرعها عدة مرات قبل أن يسمع صوت صرير لبابٍ يُفتح، يتلفت حوله مندهشا حيث البوابة ﻻ تزال علي حالها، ثم تتحرك الكاميرا بضعة إنشات إلي اليسار ليظهر في الكادر باب الدخول صغيرًا ملاصقًا للبوابة الهائلة.

العائلة
فكرة العائلة حاضرة في كل أفلام أندرسون، وقد يرجع ذلك إلي التجربة التي عايشها في طفولته حين انفصل والداه وهو ما يزال بعدُ في الثامنة من عمره، واضطراره إلي الانتقال للعيش مع والدته. ولذلك ستجد أن أندرسون يستحضر طفولته في كل أفلامه، فستجد مثلا أن شخصية الأم في فيلم  The Royal Tenenbaums كانت عالمة آثار وكذلك كانت والدته، بل إنها أدت بعض المشاهد باستخدام العوينات الخاصة بوالدة أندرسون. كما أن فيلم Rushmore والذي يحكي قصة طالب بمدرسة ثانوية، قد تم تصويره بمدرسة  St. John's School، وهي المدرسة التي قضي بها أندرسون المرحلة الثانوية.

ومن ذلك أيضا أن أندرسون كرر الاعتماد علي عدد من الممثلين حتي ليكاد يتطابق طاقم العمل بكل أعماله. فمن بين أفلام أندرسون الثمانية شاركه صديقه ورفيقه الفني Owen Wilson في بطولة ستة أفلام، وشاركه الكتابة في ثلاثة منهم. وكذلك الممثل Jason Schwartzman الذي شاركه العمل في خمسة أفلام. أما الرقم القياسي فيعود للمثل  Bill Murray صاحب الفيلم الشهير "Groundhog Day” الذي اقتُبست فكرته في فيلم "ألف مبروك" لأحمد حلمي، وقد شارك أندرسون في سبعة أفلام من إجمالي ثمانية. وهذا الأمر من الغرابة إلي الحد الذي يدفعني إلي أن أتخرص و"أتفذلك" وأقول "أن أندرسون يجد في الاعتماد علي أصدقاؤه بشكل متكرر نوعا من الحميمية العائلية التي افتقدها في طفولته.”

الهزلية
عندما كان في الثانية عشر من عمره جمع "ويز" أبويه ليطلعهم علي رغبته في ترك المنزل والانتقال إلي فرنسا، ومن أجل ذلك قام بتحضير عريضة مسببة ليقرأها عليهما ويشرح فيها دوافع ومبررات قراره، وجاء في ثناياها أن "النظام التعليمي بفرنسا أقوي من نظيره بالولايات المتحدة، ﻻ سيما فيما يخص برنامج العلوم".
قد تلخ
ص هذه الحادثة فلسفة المخرج "ويز أندرسون" ونظرته الهزلية للحياة. تلك النظرة التي ساهمت في تشكل التيمة المميزة لأفلامه. وبالعودة إلي فيلمنا The Grand Budapest Hotel” فأحداث الفيلم تدور في دولة Zubrowka الخيالية والتي تقع علي جبال الألب بشرق أروبا في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، وقبيل الحرب العالمية الثانية. وعلي الرغم من حالة التأهب القصوي التي يعيشها هذا البلد تحسبا للحرب، ستجد أن ضابط الجيش Henckels منشغل طوال الوقت في مطاردة Gustave في مشهد هزلي ممتد طوال الفيلم. وبقليل من البحث بعد مشاهدتك للفيلم ستعرف أن اسم الدولة الخيالية Zubrowka هو في الحقيقة اسم يطلق علي نوع من الفودكا المصنعة في بولندا والتي تحظي بشهرة واسعة في كل أوربا. وستعرف أيضا أن الوحمة علي وجه Agatha هي بالفعل علي شكل دولة المكسيك.

الجائزة
علي الرغم من أن "أندرسون" لم يسبق له الفوز بالأوسكار، إﻻ أن فيلمه الأخير The Grand Budapest Hotel  قد فاز بأربعة جوائز من أصل تسعة ترشيحات، وهو أكبر عدد من الترشيحات والجوائز يحصدها فيلم في المسابقة لهذا العام. كما أنه هو الوحيد من أفلام أندرسون الثمانية الذي فاز بالجائزة. 
وعلي الرغم من أن أندرسون لم يفز بأي من الترشيحات الثلاثة التي وصل إليها عن هذا الفيلم، إﻻ أنك ستلمس طابعه المميز في الجوائز التي حصدها الفيلم. ومن ذلك مثلا جائزة "أفضل انجاز في الموسيقي التصويرية" فقد يكون من المدهش أن تعرف أن الموسيقي التصويرية للفيلم اعتمدت علي آلة نادرة تدعي"بالالايكا"، وهي آلة شعبية روسية الأصل. هذه الآلة كانت من اختيار أندرسون نفسه وليس Alexandre Desplat المؤلف الموسيقي. وأن أندرسون قد جمع العشرات من عازفي هذه الآلة النادرة من روسيا وفرنسا لتسجيل الموسيقي التصويرية وحضر بنفسه كل جلسات التسجيل.

وكذلك جائزة "أفضل إنجاز في المكياج وتصفيف الشعر" فقد اقتنصها الفيلم عن كامل جدارة واستحقاق علي العمل المبدع الذي حول الممثلة Tilda Swinton ذات الخمسة وخمسين عاما، إلي Madame D ، تلك العجوز التي بلغت من العمر أرذله بتجاوزها الثمانين. وقد اعتادت Tilda Swinton أن تقضي الساعات علي كرسي المكياج حتي تخرج شخصية مدام دي بهذا الشكل. يقول أندرسون "نحن ﻻ نعمل عادة بميزانيات ضخمة كتلك التي ينفقها Jerry Bruckheimer ، ولكن عندما تعلق الأمر بمكياج مدام دي قلت "فلنأت بأغلي المتخصصين من أجل هذه الشخصية"

وأخيرا
أندرسون الذي اعتمد طوال مشواره الفني علي ميزانيات متواضعة ﻻنتاجٍ مستقل حقق فيلمه  The Grand Budapest Hotel أعلي إيرادات حصل عليها فيلم مستقل في عام 2014 بإجمالي 175 مليون دوﻻر. بل إنه تصدر القائمة علي الرغم من توزيعه المحدود في دور السينما. فقد حصد في أسبوعه الأول 811 ألف دوﻻر بعد عرضه في أربع مسارح فقط. 

لماذا كل هذا الاحتفاء بأندرسون؟ هو ليس احتفاءًا بأندرسون بقدر ما هو احتفاء بكل صاحب رسالة، وبكل مناضل من أجل رسالته وفنه. وبالأحري احتفاءًا بالسينما المستقلة التي طالما حلم بها الفنان المصري العبقري أحمد زكي، والذي كان دائما ما يشكو صعوبات الانتاج وظلم التوزيع، وهو ما دفعه للانتاج بنفسه حتي ﻻ يتنازل عن مستوي من الفن يليق بأحمد زكي، ويليق بكل صاحب رسالة يناضل من أجلها.
-----------------------------------------
مدونة سقراط | محمد عوض
مقال منشور بموقع "ساسة بوست" بتاريخ 30 أبريل 2015

0 اتكلموووووو: