كانت المركبة الثقيلة تقل أربعة من الجنود المستجَدّين وقائدًا لهم، عندما اضطرهم انفجار أحد إطاراتها إلي التوقف لاستبدال الإطارات. وبينما كان الجنود يثبون للحاق بالإطار الاحتياطي الذي تدحرج مبتعدًا بعد أن قاموا باستخراجه من مكمنه أسفل المركبة، صاح بهم قائدهم؛ "أيها البلهاء، تجمدوا في مواقعكم ولا يحرك أي منكم ساكنا، لقد دخلتم نطاق حقلٍ للألغام".
بعد ساعات طويلة مكث فيها الجنود البؤساء المغلوبون علي
أمرهم متجمدين في مواقعهم، لم تأتهم النجدة، ولكن أتاهم صوت عبد الوهاب يصدح
"أيها الراقدون تحت التراب". أخذتهم الظنون وتلاعبت بهم الأخيلة بينما
الصوت يقترب ويتضح أكثر فأكثر حتي تبدي لهم أعرابيٌّ يمتطي حماره ويحمل بين يديه
مذياعا. وبعد تبادل نظرات الاستنكار سألهم الأعرابي "فيم وقوفكم هنا؟"
فخرج الجنود عن صمتهم المسربل بالدهشة وجاوبوا سؤاله بسؤال "كيف تأمن علي
نفسك وأنت تخوض حقل ألغام؟" فابتسم ابتسامة الخبير العالم ببواطن الأمور
وخفاياها ثم قال "هذي الأرض أرضي، وقد وضعت تلك اللافتة الزائفة لدفع
المتطفلين عنها" اتسعت ابتسامته أكثر واستطرد بلهجة بدوية "ما في
ألغام".
لسنوات طويلة انحصرت معرفتي بأحداث الفتنة الكبري التي
شهدها المسلمون في القرن الأول الهجري، في أن الفتنة بدأت بمقتل عثمان بن عفان
وانتهت بمقتل الحسين بن علي بن أبي طالب. وأدركت بعد أن تجاوزت سني عمري ربع القرن
أن التصور الشائع عن هذا الموضوع الشائك، بمثابة حقلٍ للألغام يغشاه الهلاك من
فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، ومن ثم ينبغي توخي الحذر الشديد من الخوض فيه
أو حتي الاقتراب من نطاقه. وعليه فلن تجد أي إشارة من قريب أو بعيد إلي الفتنة
وأحداثها في المناهج التعليمية طوال إحدي عشر عاما من التعليم الأساسي أو فيما قد
يتبعها من التعليم الجامعي، ولن تسمع عنها في خطبة عصماء، أو غير عصماء، في يوم من
أيام الجمعة، ولن يثار الحديث عنها بمجلس ذِكْر أو مجلس سَمَر. ومن ثم ستبقي كل
معرفتك بأحداث الفتنة مقرونة بتلك القوالب الجاهزة المعلبة التي أفرزتها ثقافتنا
السمعية والتي تتلخص في أن الفئة الباغية قتلت عثمان وعليّا وابنيه، وأننا –ولله
الحمد- من الفئة الناجية، وأن "الشيعة" قومٌ مارقون، يؤلّهون عليّا، أو
علي أقل تقدير يدّعون له النبوة، ويسبون أصحاب النبي، ويحيون ذكري عاشوراء
بالاقتصاص من أنفسهم بأن يضرب بعضهم بعضا بالسياط والجنازير.
وبعد قرار تأخر كثيرا، استعرت من أحد أصدقائي كتاب
"الفتنة الكبري" للدكتور طه حسين، والذي يستعرض فيه أحداث الفتنة لا من
وجهة نظر دينية، ولا تاريخية، ولكن من وجهة نظر سياسية، يناقش من خلاله النظام
السياسي الذي أقامته الدولة الإسلامية في صدر الإسلام وأثناء خلافة الشيخين أبي
بكر وعمر، وما طرأ علي هذا النظام من تغير وتبدل أحدثته الفتنة بعد ذلك. وعلي
الرغم مما قد يشوب هذا الكتاب من نقص، وإن كان لا يعيبه لكن تقتضي الحاجة استكماله
بغيره من المصادر، إلا أنني توصلت إلي قناعة بأن أحداث الفتنة كانت ابتلاءً من الله،
ليس للسابقين الأولين من المسلمين ممن حضر أحداث الفتنة وحسب، ولكن للأمة
الإسلامية جمعاء. ويبقي الثابت فيها أن رسول الله قد حذر منها، ودعا المسلمين إلي
اعتزالها، وأورد فيها من الأحاديث ما يبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومن
ذلك قوله لعليّ بن أبي طالب أن قاتله هو أشقي الناس يوم القيامة، وقوله لعمار بن
ياسر "ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية" وغيرها من الأحاديث.
غير أن أهم ما انتهيت إليه هو أن الصحابة والتابعين،
مهما بلغت منزلتهم من رسول الله وقرابتهم له، ومهما كانت سابقتهم في الإسلام
وفضلهم فيه، كانوا بشرا، يجري عليهم ما يجري علي كل بني أدم، يجتهدون فيخطئون
ويصيبون، وليس علينا من إثم في الوقوف علي ما وصلنا من سيرتهم وأخبارهم، ما اختلف
فيه المؤرخون وما اتفقوا، نقتفي أثر حديث رسول الله عن الفتنة، وننتهي عما نهانا
عنه من العصبية والتشيع والفرقة، ونترك الحكم في الأخير لله. ولست أري في كل ذلك
ما يدعو إلي تلك الرهبة الشديدة المقترنة بأحداث الفتنة وكل ما يتعلق بها، ولا تلك
الهالة الزائفة التي تحيط باللفظة المجردة "الفتنة" والتي لا تختلف في
زيفها عن لافتة الأعرابيّ، وما أرانا بجمودنا وركود فكرنا أقل بؤسا من الجنود في
موقفهم من حقلٍ زائفٍ للألغام، ولكن من أين لنا بمثل هذا الأعرابيّ ليصيح بنا
"أيها الراقدون تحت تراب الجهل والتغييب .. ما في ألغام".
-----------------------------------------
مدونة سقراط | محمد عوض