Saturday, October 5, 2013

بنك الحظ.. أو "الرأسمالية للمبتدئين"



وانا صغير كنت بستني الأجازة بفارغ الصبر علشان أسافر الشرقية عند ولاد خالي وأقضيها معاهم. الكلام ده كان في بدايات التسعينات، أيام ما كان الأتاري الفاملي انطلاقة غير مسبوقة في عالم الفيديو جيم، وكنا بنلعب كمان لعبة الجيل "بنك الحظ" ماكناش نعرف ساعتها ان اللي هيبقوا في سننا بعد أقل من عشرين سنة هيلعبوا "أنجري بيرد" علي الآي باد،، أرزاق وبيقسمها الخلاق.. المهم، في سنة من السنين أحمد ابن خالي أضاف ابتكار عبقري علي لعبة بنك الحظ غير من شكل اللعبة تماما ، الابتكار ده كنا بنسميه "البورصة".

فكرة بنك الحظ الأساسية في التباين ما بين البلاد المختلفة، في بلاد معينة رسوم الوقوف فيها عالي جدا زي القاهرة واسكندرية والقدس وغيرها، وخصوصا بقي لو انت عندك منشئات فيها زي جراج ولا سوق ولا أي حاجة من المكعبات البلاستيك العبيطة دي، وبناء عليه لو حظك كان حلو وقدرت تسبق وتشتري البلاد المميزة دي هتبقي عندك فرصة أكبر في الثراء بشكل سريع علي حساب باقي اللاعبين.

فكرة "أحمد" بقي نسفت الكلام ده، الفكرة ببساطة إن أحمد عمل صكوك لعدد من السلع، علي ما أّذكر كانت (قمح وقطن وبترول وسيارات وأسلحة) كل سلعة من دول ليها صك واحد بس ممكن تشتريه من البنك، وكل سلعة من دول ليها سعر مختلف علي حسب كل بلد، والفكرة انك لما تقف في بلد سعر السلعة دي فيها رخيص ممكن تشتريها ولما تقف في بلد تانية سعر السلعة فيها غالي تبيعها وتكسب الفرق، الجميل بقي ان أحمد عمل توازن ما بين فكرة "بنك الحظ" الأصلية في التباين ما بين البلاد، يعني خلي السلع دي أسعارها رخيصة في البلاد اللي كان البنك مميزها في رسوم الوقوف، وأسعارها غالية في البلاد اللي كانت فقيرة وماحدش بيشتريها لأن رسومها قليلة.
فكرة أحمد كانت ذكية جدا ومتكاملة جدا لدرجة انه حتي فكر في انه يفرض ضرايب علي عملية البيع والشراء، بمعني انك لو وقفت مثلا في بلد مش بتاعتك وعاوز تشتري أو تبيع سلعة معينة كان لازم تدفع لصاحب البلد دي غير رسوم الوقوف ضريبة علي عملية البيع والشرا اللي انت عملتها.

المهم لما بدأنا ننفذ فكرة أحمد واجهتنا أول مشكلة، وهي إن معدلات التداول زادت بشكل كبير قوي، وفكرة الإثراء بقيت أسرع وأسهل للاعبين علي حساب البنك نفسه، فبعد شوية الفلوس الموجودة في البنك خلصت وبقيت كلها مع اللاعبين، فعملنا تعديل علي فكرة الضريبة علشان يستفيد منها البنك وهي ان المستثمر يدفع ضريبة مزدوجة جزء منها لصاحب البلد اللي بيشتري أو يبيع فيها والجزء التاني للبنك، وعلشان نحل مشكلة نقص السيولة اشترينا لعبة "بنك الحظ" جديدة خدنا منها الفلوس علشان نزود السيولة في البنك بتاعنا القديم، وكملنا لعب.

الهدف من فكرة البورصة العبقرية اللي ابتكرها أحمد هي انه يعمل امتداد للعبة علشان اللعبة ما تخلصش لما حد يشتري البلاد المميزة وخلاص، فمن خلال البورصة بقي عندنا مجال جديد للتنافس غير تملك البلاد المميزة، بس بعد شوية اكتشفنا مشكلة جديدة رجعتنا تاني لأزمة البلاد المميزة، وهي إن أحمد خلي مستويات أسعار السلع دي متفاوتة، فأكيد تجارة القمح ولا القطن مش هتكون زي تجارة السيارات ولا السلاح، يعني مثلا كان ممكن تشتري أقل صك للقمح بـ300 جنيه وتبيع أغلي صك بـ1200 جنيه، لكن الأسلحة كان أقل صك بـ1500 جنيه وأعلي صك بـ6000 جنيه، فبقت النتيجة الطبيعية لكده ان أصحاب البلاد المميزة اللي كانوا بيقدروا يجمعوا ثروة أكبر من رسوم الوقوف في بلادهم هما بس اللي  كانوا بيقدروا يضاربوا في البورصة في السلع العالية، وباقي اللاعبين كانوا بيضاربوا علي قدهم في القمح والقطن، فطبعا أصحاب البلاد المميزة كانوا بيزدادوا ثراء وبسرعة جدا، وباقي اللاعبين وحتي لو ماكانوش بيفلسوا بسرعة زي زمان، فضلت ثروتهم في مستوي محدود، وكانت الطريقة الوحيدة قدام الأثرياء للفوز هي إنهم يشتروا صكوك السلع الدنيا زي القمح والقطن ويسقعوها يعني يحتفظوا بيها ما يبيعوهاش علشان باقي اللاعبين مايلاقوش حاجة يضاربوا فيها في البورصة وفي نفس الوقت يستمروا في دفع رسوم الوقوف لأصحاب البلاد المميزة لحد ما يعلنوا إفلاسهم.

بعد تفكير طويل في المشكلة دي توصلنا لحل، وهو إننا نفرض قانونين مهمين لمنع احتكار أصحاب البلاد المميزة للسلع، الأول هو إن كل حاملي الصكوك لازم يبيعوها في خلال دورة واحدة بس، يعني اللي يشتري صك سلعة معينة لازم يبيعها أول ما يوصل لنقطة البداية بعد دورة كاملة، والتاني هو إن كل لاعب مسموح له يشتري صك واحد بس لا غير، وبكده نضمن ان محدش هيحتكر أي سلعة، وان اللاعبين هيفضلوا يبيعوا ويشتروا من غير أصحاب البلاد المميزة ما يتحكموا فيهم. الحكاية الطويلة العريضة دي مجرد نموذج مصغر للخناقة الأبدية ما بين الرأسمالية وغيرها من الأيديولوجيات المختلفة علي مدار القرنين اللي فاتوا، وخلينا نبتدي في الكلام اللي البعض شايفينه ممل بس هو ضروري جدا.

الحكاية بكل بساطة إن عالم الإقتصاد الانجليزي أدم سميث واللي بيسموه أبو الرأسمالية، أو أبو الاقتصاد لأنه تقريبا أول عالم اقتصاد بالمفهوم الحديث، الراجل ده قال يا إخوانا سيبوا الناس تشتغل، دعونا نعمل في صمت، خلوا كل واحد يجتهد ويزرع ولا يصنع ويقدم المنتج بتاعه للسوق، والسوق هو اللي يقدره، وفكرة المنافسة في السوق دي هي اللي هتدفع الناس للعمل، وان اللي هيشتغل هيعرف يعيش واللي هيكسل وينام في البيت يلبس بقي. بس أهم حاجة نسيب الناس تشتغل من غير قيود والسوق هو اللي هيمشي نفسه من غير ما حد يتدخل.. وفي المقابل كان في واحد تاني اسمه كارل ماركس، كان بيقول ان ده كلام فارغ وهري في هري، وان أصحاب رأس المال هيتحكموا في السوق وبناء عليه هيتحكموا في الناس، وهيبقي في ناس بتشتغل وتتعب وناس تانية خالص هي اللي بتكسب، وان لازم الدولة هي اللي تتحكم في كل أدوات الانتاج وهي اللي تبيع وهي اللي تشتري وتوزع علي الناس بعد كده بالتساوي، بس أدم سميث قالك مفيش الكلام ده، السوق هيقدر يعالج المشاكل اللي من النوعية دي علي المدي الطويل من خلال حاجة اسمها "اليد الخفية" اللي هي فكرة العرض والطلب.

المهم ما بين المدرستين المتطرفين دول، كان في مدارس تانية معتدلة في النص، من ده علي ده يعني، وفضلت الخناقة لحد الأزمة المالية اللي حصلت في تلاتينات القرن العشرين اللي بيسموها "الكساد الكبير" والناس بتوع أدم سميث فضلوا مستنين إن السوق يعالج مشاكله بنفسه زي ما قال، وفضلوا مستنين الإيد الخفية اللي قالهم عاليها، بس كل مدي ما الأوضاع كانت بتبقي أسوأ، فطلع واحد قالك "ياعم ده كلام فارغ والمدي الطويل اللي كان بيقول عليه "سميث" ده علي ما هيجي هنكون احنا موتنا وشبعنا موت"، الراجل ده كان شغال موظف في وزارة الخزانة البريطانية كان اسمه جون ماينارد كينز، وطلع نظرية سموها "الكينزية" النظرية دي ملخصها إن الدولة مش شرط تمتلك كل أدوات الانتاج وتتحكم في كل حاجة، هنسيب الناس تبيع وتشتري وتنتج عادي، بس الدولة هيكون ليها "اليد العليا" علشان تمنع الاحتكار وتحافظ علي توازن توزيع الدخول والثروات {فاكرين أخر تعديل عملناه علي لعبة البورصة علشان ماحدش يحتكر كل السلع}

المهم الناس نفضت له، واستمر الوضع من غير تحسن لحد ما قامت الحرب العالمية التانية وكل الدول خرجت منهكة اقتصاديا من تداعيات الكساد الكبير ومن تكاليف الحرب، فبدأوا يجربوا نظرية كينز، وفعلا في خلال العشرين سنة اللي بعد الحرب كل الدول حتي اللي كانت مهزومة في الحرب وعلي رأسها ألمانيا بدأت تستعيد عافيتها الاقتصادية، لحد ما جت السبعينات، أقذر فترة في تاريخ العالم الحديث، وبدأ العالم يتجه مرة تانية للرأسمالية الصرفة بتاعة سميث ويطبقها بشكل أعنف، وعلي نص التمانينات كده كان العالم كله تقريبا تحول للرأسمالية وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أول التسعينات وتزعم أمريكا للعالم بلا شريك. وفي خلال أقل من تلاتين سنة حصلت الأزمة المالية العالمية في 2008 اللي مازال العالم بيعاني منها لحد دلوقتي، ورجع تاني الكلام عن أفكار كينز لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لما أحمد ابن خالي فكر في ابتكار البورصة اللي أضافه للعبة بنك الحظ كان كل الهدف اننا نلعب فترة أطول، لأن في الغالب كان في ناس بتفلس بسرعة قوي وتخرج من اللعبة بدري لأن الحظ ما أسعفهمش وماقدروش يشتروا أي بلد من البلاد المميزة، فأحمد خلق للناس اللي حظهم وحش فرصة موازية علشان يقدروا يجاروا أصحاب البلاد المميزة وتبقي في بينهم منافسة تخلي اللعبة أطول وبالتالي كلنا ننبسط، وده تقريبا اللي كان بيفكر فيه أدم سميث أبو الرأسمالية، كان بيفكر في مصلحة العالم كله، إن الناس كلها تبقي مبسوطة، لكن ما فكرش أبدا في النتائج الكارثية اللي ممكن تحصل بسبب جشع أصحاب البلاد المميزة،، قصدي أصحاب رأس المال، النتائج الكارثية دي هي اللي عانت منها البشرية في أزمة الكساد الكبير في التلاتينات، والأزمة العالمية في 2008، الجميل بقي ان علي الرغم من إن أصحاب رأس المال هما اللي اتسببوا في الكوارث دي لكن اللي بيدفع التمن هما الفقرا.

في دراسة عملها المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في 2008 بتقول {إن حاصل جمع الثروة التي يمتلكها 1125 ملياردير في العالم قد بلغت أربعة آلاف وأربعمائة مليار دولار أمريكي، وتأسيسا علي هذه القيمة يمكن القول إن 1125 من أغني الأغنياء في العالم يمتلكون ثروة تساوي – علي وجه التقريب- مجمل الدخول التي يحصل عليها في عام واحد نحو ثلاثة مليارات مواطن، أي التي يحصل عليها مجمل سكان الهند وباكستان وبنغلاديش وتايلاند وماليزيا وفيتنام والفلبين والقارة الإفريقية برمتها}

الفكرة إن عدد البلاد المميزة في بنك الحظ ثابت ودي اللي بتمثل عوامل الانتاج الرئيسية، يعني اللي هيحط إيده علي البلاد المميزة دي هو اللي هيضمن دخل ثابت ومحترم. وفي نفس الوقت عدد الورق الموجود في البنك هو كمان ثابت يعني أقصي ثروة ممكن يوصلها اللاعب مهما بلغت مش هتتخطي عدد الورق الموجود في اللعبة، أدم سميث كان بيقول كل واحد وحظه وكل اللاعبين يشتغلوا ويتسابقوا علشان يلحقوا يشتروا البلاد المميزة زي القاهرة واسكندرية ويبنوا المنشئات ويطلعوا فلوس يضاربوا بيها في البورصة، والبنك ما يتدخلش ولا يقول لحد امتي يشتري وامتي يبيع. وكارل ماركس كان بيقول البنك هواللي يتحكم في كل حاجة، هو اللي يشتري كل البلاد وكل السلع ويوزع الفلوس بالتساوي علي اللاعبين. وكينز كان بيقول خلوا الناس تجتهد وتتسابق وتبيع وتشتري، بس لازم البنك يبقي فايق لهم وما يخليش حد يحتكر السوق علشان باقي اللاعبين ما يفلسوش... بذمتكم بقي مش لو كان الآي باد طلع علي أيامنا كان زمانكم اترحمتوا من التدوينة الطويلة قوي دي؟؟
-----------------
مدونة سقراط | محمد عوض

1 اتكلموووووو:

Mohamed AbdAllah said...

المدهش في التدوينة أنها وكما أقول دائما ، أن مسطر أحرفها يجيد الجمع بين المتناقضات ، ففي حين يربط الناس عادة بين أمرين متقاربين في الأساس ويقوموا بعملية المقارنة ، كمثل المقارنة بين نوعين مختلفين من السيارات أو العقارات والتفضيل بينهما ، نجد أن آخرين يقومون بعمل مقارنات بعيدة كالتقريب والمقارنة بين/ عن ، أيهما الأكثر أهمية شراء العسل أم شراء الجريدة ، فنجد أن العادة لدى المعلقين هي أن العسل أهم لانه مفيد للصحة وهكذا ، بينما نرى نمطاً آخر يرى أن شراء العسل والجريدة لهما نفس الأهمية فهما شيئان تنبني أهميتهما في أنهما مكملان لبعضهما البعض ، فالجريدة تنشر أسعار وأصناف وفوائد وأماكن شراء العسل بما يعني أن شراء الجريدة مهم لشراء العسل .

هذه النوعية من التفكير البنائي الذي يربط بين المتناقضات ليكون لوحة فنية مبسطة ، هو ما يبرع فيه صاحب التدوينة .