"أتعرف أن الإنسان لا يحس بوجوده إلا إذا رُزق الولد، إنه من قبل كالمطر ينحدر علي التلول ويتفرق في الوديان، ولا تعلو قامته في مكان رغم غزارته، ثم انظر إلي الولد حين يعانق أباه، تجد ذراعيه كالضفتين تحتجزان هذا الماء المضاع فيصبح نهرًا له حياة معلومة ومجري مرسوم ومبدأ وغاية." *
كنت غارقًا حتي الثمالة بين تلك السطور التي خطتها تلك الأنامل العبقرية للرائع يحي حقي، عندما أتاني صوتها الهادر ليوقظني علي أحلي هدايا القدر متسائلةً في أدب جم:
- أبحث عن كتاب بعنوان "صح النوم" لـ يحي حقي، هل لديك نسخة منه؟
- أظن أن لدي نسخة من الأعمال الكاملة ليحي حقي قد يكون هذا الكتاب من ضمنها.
أجابها البائع بصوته الأجش بينما عيناه تجوبان تلك الأكوام من الكتب الملقاة علي الرصيف، والمتراصة في عشوائية كنجوم منثورة في سماء غائمة، لا يُهتدي بها ولا إليها.
نزلت اللحظات التالية بي منزل الحمي بالمحموم، فقد انقضت دون أن يتنامي إلي وعيي أنني أحمل مقصدها بين راحتي هاتين .. وأخيرًا خرجت عن صمتي متعلثما:
- هـ هذه هي .. صح النوم.
فقالت وقد تهللت أساريرها:
- حقا؟ .. ولكن ألم تكن علي وشك شرائها؟
- بوسعي البحث عن غيرها.
- لا .. أنا لن أرضي بذلك .. أنت سبقتني إليها.
- سأتركها لك عن طيب خاطر.
- أشكرك بشدة ولكني لن أرضي.
وفي تلك الأثناء كان البائع قد عثر علي نسخة الأعمال الكاملة، وبدا أنه لم يعد هناك دافع مقنع لإصراري، فشكرتني مرة أخري وهي تعطيني الكتاب، وتناولت نسخة الأعمال الكاملة من البائع، والتي من حسن طالعي بذلك اليوم لم تحو قصة "صح النوم"، فعرضت عليها أن نقوم بتبادل الكتابين، ففي ذلك ما يرضي كلانا، وكانت ابتسامتها العذبة خير إشارة علي الموافقة فسألتها في اهتمامٍ غير مفتعل:
- أتستهويكِ كتابات يحي حقي؟
- ليس بعد، ولكني قرأت شيئًا يسيرًا من قصة صح النوم بإحدي المكتبات العامة، وجذبتني إليها بشدة فعزمت علي اقتنائها.
لم يدم الحديث بيننا طويلا، ولكن وقع كلماتها القليلة في نفسي دام لسنوات طويلة بعد ذلك. سألتها أن تحتفظ بالكتابين معًا، فلدي الكثير من كتابات يحي حقي فهو كاتبي المفضل، ولكنها أبت، وذكّرتني بأن اتفاقنا بشأن تبادل الكتابين كان للعدل فيما بيننا، فبادرتها بنبرةٍ مترددة:
- إذن فلتكن استعارة.
- استعارة؟
- نعم، يمكنك استعارته مني بوصفي مالكه المستقبلي.
فقالت مدارية ابتسامةٍ خجولة:
- وأني لك استعادته أيها المالك المستقبلي؟
- إن قٌـدر لنا اللقا.
أخبرتها أني دائم التردد علي هذا المكان لابتياع ما يلزمني من كتب، فازدادت بسمتها كاشفة عن أسنان نضيدة ناصعة البياض، فاستطردت بأنه إن قُدر لنا اللقاء سيكون بنفس المكان. واتفقنا، وافترقنا، وبعدما غابت عن ناظري تذكرت أني لم أسألها عن اسمها، وأنها لم تعرف اسمي.
شهر كامل انقضي لم أنقطع فيه عن زيارة المكان، أقضي ما يزيد علي الساعة أقلب الكتب بين يدي دون أن أشتري منها شيئا، أتنقل بين صفحات الكتاب دون أن يعلق بذهني منه حرفا، أحاول جاهدًا الفكاك من أسر ذلك الملاك الذي أهديته قلبي طي كتاب، لكن بلا جدوي، إلي أن كان اليوم الثالث بعد الثلاثين، كنت علي وشك الأفول إلي بيتي منكسر الخاطر كالعادة، عندما أقبلت .. هي هي .. بابتسامة مشرقة، تحمل حقيبتها بارزًا منها إحدي طرفي الكتاب. قابلتها بفرحة أكبر من أن تستوعبها قلوب البشر مجتمعة، سألتني والابتسام لم يفارقها:
- كيف حالك؟
فردّدت كلماتها كالأبله:
- كيف حالك؟
- بكل خير.
- لم أسألك عن اسمك في المرة الفائتة.
- هند
- محمد
... إنه ذلك النداء الذي يذهب بكل عقلي، تلك الكلمة التي تنطقها بتحريف محبب إلي قلبي تلك الأميرة التي لم تتعلم المشي بعد، عندما تزحف نحوي علي أربع مرددة "بابا"، والتي لا أملك إزاءها سوي ترك القلم لتبقي كلماتي بلا بقية سوي أن تلك الأميرة الصغيرة هي ابنتها.
=========
ملحوظة
الفقرة الأولي من قصة "صح النوم" لـ يحي حقي
- أبحث عن كتاب بعنوان "صح النوم" لـ يحي حقي، هل لديك نسخة منه؟
- أظن أن لدي نسخة من الأعمال الكاملة ليحي حقي قد يكون هذا الكتاب من ضمنها.
نزلت اللحظات التالية بي منزل الحمي بالمحموم، فقد انقضت دون أن يتنامي إلي وعيي أنني أحمل مقصدها بين راحتي هاتين .. وأخيرًا خرجت عن صمتي متعلثما:
- هـ هذه هي .. صح النوم.
فقالت وقد تهللت أساريرها:
- حقا؟ .. ولكن ألم تكن علي وشك شرائها؟
- بوسعي البحث عن غيرها.
- لا .. أنا لن أرضي بذلك .. أنت سبقتني إليها.
- سأتركها لك عن طيب خاطر.
- أشكرك بشدة ولكني لن أرضي.
- أتستهويكِ كتابات يحي حقي؟
- ليس بعد، ولكني قرأت شيئًا يسيرًا من قصة صح النوم بإحدي المكتبات العامة، وجذبتني إليها بشدة فعزمت علي اقتنائها.
- إذن فلتكن استعارة.
- استعارة؟
- نعم، يمكنك استعارته مني بوصفي مالكه المستقبلي.
فقالت مدارية ابتسامةٍ خجولة:
- وأني لك استعادته أيها المالك المستقبلي؟
- إن قٌـدر لنا اللقا.
أخبرتها أني دائم التردد علي هذا المكان لابتياع ما يلزمني من كتب، فازدادت بسمتها كاشفة عن أسنان نضيدة ناصعة البياض، فاستطردت بأنه إن قُدر لنا اللقاء سيكون بنفس المكان. واتفقنا، وافترقنا، وبعدما غابت عن ناظري تذكرت أني لم أسألها عن اسمها، وأنها لم تعرف اسمي.
- كيف حالك؟
فردّدت كلماتها كالأبله:
- كيف حالك؟
- بكل خير.
- لم أسألك عن اسمك في المرة الفائتة.
- هند
- محمد
... إنه ذلك النداء الذي يذهب بكل عقلي، تلك الكلمة التي تنطقها بتحريف محبب إلي قلبي تلك الأميرة التي لم تتعلم المشي بعد، عندما تزحف نحوي علي أربع مرددة "بابا"، والتي لا أملك إزاءها سوي ترك القلم لتبقي كلماتي بلا بقية سوي أن تلك الأميرة الصغيرة هي ابنتها.
=========
ملحوظة
الفقرة الأولي من قصة "صح النوم" لـ يحي حقي