لم تكن تعلم أن القطار لن يتوقف بميت عساس، ولم تكن تدرك أنه بتلك الهيئة – التي لا تختلف كثيرا عن قطار ميت عساس- أنه قطار سياحي.
بينما كان السلم المتحرك يحملني وأحمالي إلي الأعلي، كانت تدور برأسي الوساوس عما إذا كنت سألحق بقطاري أم لا. وبوصولي إلي الأعلي، انتبهت كغيري على أصوات تنم عن مشاجرة. أمعنت النظر والسمع فإذا بأحد عمال المترو المنوط بهم مراقبة بوابات العبور من وإلي الأرصفة، فى زيه الرسمي سماوي اللون، ذلك اللون الذي يفترض فيه بعث الراحة في النفوس قبل العيون، ويقف إلي جواره أحد أمناء الشرطة، أو علي حد التعبير الشعبي "أبو طبنجة"، وفى مواجهتهما تقف فتاة لا تبدو عليها سوي علامات الضعف والاستكانة. تمكنت دون عناء أن أميز تلك الجملة الآثرة التي نطق بها العامل مهددًا الفتاة "يا تدفعي الغرامة يا نعمل لك محضر" والتي لم تجد من بد سوي استنفار كل ما تحمله ذاكرتها الصغيرة من أيمان مغلظة وغير مغلظة لتؤكد صدق نيتها وجهلها بالأعراف المتروية المقدسة، إلا أن محاولتها كانت أبعد ما تكون عن التأثير علي ذلك العامل سليل أقدم بيروقراطية عرفها التاريخ.
لم يكن لدي متسع من الوقت للفضول، جذبت أحمالي وعبرت البوابات أحث الخطي إلي محطة مصر علني ألحق بقطاري، إلا أن ذهني لم ينصرف عن تلك المسكينة التي رمي بها حظها العاثر فى مثل هذا الظرف الغابر، وصرت أتساءل عما سيكون مصيرها، هل سترضخ أمام تزمت العامل وتضطر لدفع غرامة تشفق جيوبها عن حملها؟ بالطبع ستفعل راغمة، وإلا ما السبيل لاتقاء عيون المارة، ولسان العامل السليط، وسلاح أبو طبنجة القابع على أحد جنبيه؟
وبينما أنا هائم بين مشاعري المختلطة التي جمعت بين الاشفاق على تلك المسكينة والخوف المشوب بالقلق من فقدان قطاري، إذا بالذكريات تتدافع حاملة أحد المشاهد التي يفصلني عنها ما يزيد على العام. كان الوقت ما بين المغرب والعشاء، عندما يرخي الليل سدوله ملتهما آخر خيوط النهار. كنت قد أخذت مكاني من بين المقاعد الكثيرة الخالية فى القطار الذي تحرك لتوه موليـًا محطة المنصورة دبره قاصدًا القاهرة، أطلقت نظري عبر نافذة القطار، تلك التي تعرض شريطـًا سينمائيـًا عملاقا، فى انتظار مشهدي الأثير عندما يعبر القطار جسر "طلخا" وتتبدي المنصورة مع السويعات الأولي من الليل، فى أبهي حـُللها، كأميرة تتهيأ لعُـرسها متخذةً من صفحة النيل مرآةً لها.
"تذكرتك يا أستاذ؟" قالها بآلية وانصرف بعد أن أظهرت له تذكرتي وباءت محاولته لتطويقي بالفشل، انتقل إلي المربع المقابل حيث جلست فتاة لم تتجاوز العشرين ربيعا، لاتبدو عليها ملامح السفر، تنزوي فى مقعدها مشبكة ذراعيها وكأنما تخشي شيئا مجهولا. سألها بنفس الآلية عن تذكرتها، طلبت منه تذكرة واحدة: "ميت عساس" قالتها بصوت لا يكاد يُسمع من فرط خفوته، تراجعت رأسه إلي الوراء من جراء التقاط كمًا لا بأس به من الهواء، وأخبرها دون أن يلتفت إليها أن هذا القطار سيتجاوز محطة ميت عساس وأن سمنود ستكون أول المحطات التى يتوقف بها، لذا سيتوجب عليها النزول بسمنود ثم اللحاق بقطار آخر يعود بها إلى ميت عساس، ولكن قبل ذلك عليها أن تدفع جنيهان ونصف الجنيه ثمن تذكرة واحدة إلى سمنود متضمنة "التطويقة" بالطبع، ثم أخذ يقلب صفحات دفتره الصغير وردية اللون إلى أن استقر على إحداها وأخذ يملاء الفراغات الموجودة بها دون أن يبدي أى اهتمام بالفتاة التي وقفت من فرط انزعاجها وألقت بنظرة متوترة على كل ما حولها فى محاولة لإدراك ما حاق بها، غير أن أكثر ما أزعجها هو ثمن التذكرة إلي سمنود التى زادت إلي الضعف، وعندما سألت عن السبب، أجابها وهو يقتطع صفحة الدفتر الصغيرة وببرود شديد: "علشان دي درجة سياحية" وأخيرًا رفع بصره إلى الفتاة الذاهلة مادًا يده بالصفحة الصغيرة بعد أن أتم مهمته على وجهها الأكمل. تراجعت الفتاة قيد خطوة إلي الخلف فى محاولة للإعلان عن رفضها لتلك اللحظة القاتمة، وتلك الصفحة الوردية، ولذلك القطار المنطلق لا يلوي علي شيء، وارتسمت علي صفحة وجهها شديد النضرة كل ما دار بخلدها ولم يجر علي لسانها. لم تكن تعلم أن القطار لن يتوقف بميت عساس، ولم تكن تدرك أنه بتلك الهيئة – التي لا تختلف كثيرا عن قطار ميت عساس- أنه قطار سياحي، ولكنها الان تعرف أنه قطار سياحي، وتعرف أن عليها أن تدفع ضعف ثمن التذكرة، وتعرف أيضا أن ما تحمله لا يفي بهذا الثمن. أخذت تتنقل بعينيها المتوترتين، تارة بين الصفحة الصغيرة بلونها الوردي الهاديء، وبين محصل التذاكر في زيه الازرق القاتم تارة أخري، وبينما هي كذلك اذا بها تلتفت فجأة إلي النافذة حيث تعلقت عيناها بتلك اللوحة الجدارية التي كتب عليها بحروف بارزة "ميت عساس". وعند تلك النقطة الزمنية قابلها، في الواقع، وصولي إلي مكتب الاستعلامات بمحطة مصر. سألته، وأنا ألهث من جراء الجري بكل تلك الأحمال، عما إذا كان قطار المنصورة قد انطلق أم لا، فنصحني، بعد أن أخبرني أن القطار قد تحرك بالفعل، أن ألحق بقطار الأسكندرية المتأهب للانطلاق علي رصيف عشرين. ــــــــــــــــــــكتبها: محمد عـوض "سقراط"
بينما كان السلم المتحرك يحملني وأحمالي إلي الأعلي، كانت تدور برأسي الوساوس عما إذا كنت سألحق بقطاري أم لا. وبوصولي إلي الأعلي، انتبهت كغيري على أصوات تنم عن مشاجرة. أمعنت النظر والسمع فإذا بأحد عمال المترو المنوط بهم مراقبة بوابات العبور من وإلي الأرصفة، فى زيه الرسمي سماوي اللون، ذلك اللون الذي يفترض فيه بعث الراحة في النفوس قبل العيون، ويقف إلي جواره أحد أمناء الشرطة، أو علي حد التعبير الشعبي "أبو طبنجة"، وفى مواجهتهما تقف فتاة لا تبدو عليها سوي علامات الضعف والاستكانة. تمكنت دون عناء أن أميز تلك الجملة الآثرة التي نطق بها العامل مهددًا الفتاة "يا تدفعي الغرامة يا نعمل لك محضر" والتي لم تجد من بد سوي استنفار كل ما تحمله ذاكرتها الصغيرة من أيمان مغلظة وغير مغلظة لتؤكد صدق نيتها وجهلها بالأعراف المتروية المقدسة، إلا أن محاولتها كانت أبعد ما تكون عن التأثير علي ذلك العامل سليل أقدم بيروقراطية عرفها التاريخ.
لم يكن لدي متسع من الوقت للفضول، جذبت أحمالي وعبرت البوابات أحث الخطي إلي محطة مصر علني ألحق بقطاري، إلا أن ذهني لم ينصرف عن تلك المسكينة التي رمي بها حظها العاثر فى مثل هذا الظرف الغابر، وصرت أتساءل عما سيكون مصيرها، هل سترضخ أمام تزمت العامل وتضطر لدفع غرامة تشفق جيوبها عن حملها؟ بالطبع ستفعل راغمة، وإلا ما السبيل لاتقاء عيون المارة، ولسان العامل السليط، وسلاح أبو طبنجة القابع على أحد جنبيه؟
وبينما أنا هائم بين مشاعري المختلطة التي جمعت بين الاشفاق على تلك المسكينة والخوف المشوب بالقلق من فقدان قطاري، إذا بالذكريات تتدافع حاملة أحد المشاهد التي يفصلني عنها ما يزيد على العام. كان الوقت ما بين المغرب والعشاء، عندما يرخي الليل سدوله ملتهما آخر خيوط النهار. كنت قد أخذت مكاني من بين المقاعد الكثيرة الخالية فى القطار الذي تحرك لتوه موليـًا محطة المنصورة دبره قاصدًا القاهرة، أطلقت نظري عبر نافذة القطار، تلك التي تعرض شريطـًا سينمائيـًا عملاقا، فى انتظار مشهدي الأثير عندما يعبر القطار جسر "طلخا" وتتبدي المنصورة مع السويعات الأولي من الليل، فى أبهي حـُللها، كأميرة تتهيأ لعُـرسها متخذةً من صفحة النيل مرآةً لها.
"تذكرتك يا أستاذ؟" قالها بآلية وانصرف بعد أن أظهرت له تذكرتي وباءت محاولته لتطويقي بالفشل، انتقل إلي المربع المقابل حيث جلست فتاة لم تتجاوز العشرين ربيعا، لاتبدو عليها ملامح السفر، تنزوي فى مقعدها مشبكة ذراعيها وكأنما تخشي شيئا مجهولا. سألها بنفس الآلية عن تذكرتها، طلبت منه تذكرة واحدة: "ميت عساس" قالتها بصوت لا يكاد يُسمع من فرط خفوته، تراجعت رأسه إلي الوراء من جراء التقاط كمًا لا بأس به من الهواء، وأخبرها دون أن يلتفت إليها أن هذا القطار سيتجاوز محطة ميت عساس وأن سمنود ستكون أول المحطات التى يتوقف بها، لذا سيتوجب عليها النزول بسمنود ثم اللحاق بقطار آخر يعود بها إلى ميت عساس، ولكن قبل ذلك عليها أن تدفع جنيهان ونصف الجنيه ثمن تذكرة واحدة إلى سمنود متضمنة "التطويقة" بالطبع، ثم أخذ يقلب صفحات دفتره الصغير وردية اللون إلى أن استقر على إحداها وأخذ يملاء الفراغات الموجودة بها دون أن يبدي أى اهتمام بالفتاة التي وقفت من فرط انزعاجها وألقت بنظرة متوترة على كل ما حولها فى محاولة لإدراك ما حاق بها، غير أن أكثر ما أزعجها هو ثمن التذكرة إلي سمنود التى زادت إلي الضعف، وعندما سألت عن السبب، أجابها وهو يقتطع صفحة الدفتر الصغيرة وببرود شديد: "علشان دي درجة سياحية" وأخيرًا رفع بصره إلى الفتاة الذاهلة مادًا يده بالصفحة الصغيرة بعد أن أتم مهمته على وجهها الأكمل. تراجعت الفتاة قيد خطوة إلي الخلف فى محاولة للإعلان عن رفضها لتلك اللحظة القاتمة، وتلك الصفحة الوردية، ولذلك القطار المنطلق لا يلوي علي شيء، وارتسمت علي صفحة وجهها شديد النضرة كل ما دار بخلدها ولم يجر علي لسانها. لم تكن تعلم أن القطار لن يتوقف بميت عساس، ولم تكن تدرك أنه بتلك الهيئة – التي لا تختلف كثيرا عن قطار ميت عساس- أنه قطار سياحي، ولكنها الان تعرف أنه قطار سياحي، وتعرف أن عليها أن تدفع ضعف ثمن التذكرة، وتعرف أيضا أن ما تحمله لا يفي بهذا الثمن. أخذت تتنقل بعينيها المتوترتين، تارة بين الصفحة الصغيرة بلونها الوردي الهاديء، وبين محصل التذاكر في زيه الازرق القاتم تارة أخري، وبينما هي كذلك اذا بها تلتفت فجأة إلي النافذة حيث تعلقت عيناها بتلك اللوحة الجدارية التي كتب عليها بحروف بارزة "ميت عساس". وعند تلك النقطة الزمنية قابلها، في الواقع، وصولي إلي مكتب الاستعلامات بمحطة مصر. سألته، وأنا ألهث من جراء الجري بكل تلك الأحمال، عما إذا كان قطار المنصورة قد انطلق أم لا، فنصحني، بعد أن أخبرني أن القطار قد تحرك بالفعل، أن ألحق بقطار الأسكندرية المتأهب للانطلاق علي رصيف عشرين.