"كان ابني في العاشرة من عمره حين سألني؛ لماذا يندرج فعل "القتل" تحت مهام وظيفتي كشرطي. ابني رفائيل الذي يرقد الآن بالمشفي بعد أن أصيب بطلق ناري، لم أدر حينها بماذا أجيبه. وأنا الآن، وبعد إحدي وعشرين عاما من الخدمة في الشرطة العسكرية، لا أدري لماذا قَتلت، ولا باسم من قَتلت. ولكنني –سيدي النائب- لا يخامرني أيُّ شكٍ في أن الشرطي حين يقتل ليس هو من يسحب الزناد. كما أنني علي يقينٍ بأن أكثر من نصف زملائك بهذا المجلس الموقر مكانهم الحقيقي هو السجن."
بهذه الكلمات بدأ روبرتو ناسمينتو، الضابط بقوات الشرطة
العسكرية البرازيلية، شهادته أمام جلسة الاستماع بالبرلمان، في واحدة من أكبر
قضايا الفساد بولاية ريو دي جانيرو. الفيلم البرازيلي "Tropa de Elite" أو "النخبة" في جزئه الثاني
بعنوان "العدو من الداخل" من انتاج عام 2010.
تبدأ الأحداث قبيل انتخابات التجديد بولاية ريو دي
جانيرو. سعيا منه لرفع أسهمه لدي العامة، يقوم محافظ الولاية بالتنسيق مع عدد من
قيادات الشرطة العسكرية الفاسدين بتنفيذ عملية مسرحية يتم خلالها الهجوم علي أحد
مراكز الشرطة والاستيلاء علي الأسحلة الموجودة بها، ثم الاستعانة بوسائل الإعلام للترويج
لهذه العملية علي أنها شكل من أشكال الإرهاب الذي يمارسه تجار المخدرات.
"ما الذي يحدث بمدينة ريو دي جانيرو؟ ما الذي يحدث بتلك
المدينة الجميلة؟ مجموعة من الحثالة يقومون بالهجوم علي أحد مراكز الشرطة لسرقة
الأسحلة، لسرقة الأسلحة الموجودة بمركز الشرطة" يصمت برهة ليعود ويقول في
انفعال مفتعل "هذه ليست عملية سرقة يا سادة، بل هي عملية إرهابية.. عملية
إرهابية. لا تحدثني عن حقوق الإنسان، فالإرهابي ليس بإنسان.. سيدي المحافظ إذا
أخذك التسامح مع تلك الحثالة فعليك بتوديع منصبك، لأن هذه الحثالة ستقوم بإعمال
هذا السلاح في مواجهة إدارتك، تلك الإدارة التي قامت بتطهير هذه المدينة من تجارة
المخدرات. سيدي المحافظ، لا تأخذك بهم شفقة ولا رحمة"
تخرج هذه الكلمات في أداء مسرحي غاية في الركاكة
والافتعال من أحد مقدمي البرامج التلفزيونية، الذي يذكرك أداؤه بالكثيرين في
بلادنا ممن يقال لهم "إعلاميين"، من هم علي شاكلة توفيق عكاشة وأحمد
موسي وخيري رمضان وغيرهم، مطالبا محافظ ولاية ريو دي جانيرو بالرد علي تلك العملية
"الإرهابية" وملاحقة تجار المخدرات.
واستكمالا لأخر فصول تلك المسرحية، تقوم قوات الشرطة
العسكرية بمداهمة المقاطعة الشمالية بالولاية، المعروفة بإيوائها لأغلب تجار
المخدرات، وإعمال القتل بشوارعها بحثا عن الأسحلة المسروقة، تلك العملية المسرحية التي
يصفها ناسمينتو فيما بعد بالعملية "العراقية" نسبة إلي الحرب الأمريكية
علي العراق قبل عشر سنوات بحثا عن أسحلةٍ للدمار الشامل. وكما في الفصول الأولي من
المسرحية، كان لوسائل الإعلام دورها في هذا الفصل الأخير بالترويج لتلك العملية،
والثناء علي المحافظ وسعيه الدءوب لتطهير ولاية ريو دي جانيرو من تجار المخدرات
"الإرهابيون".
بعد محاولة فاشلة لقتله، يواصل ناسمينتو مواجهته للنظام،
أو "الأعداء" علي حد وصفه. يتقدم إلي البرلمان بما توفر لديه من أدلة
تدين العديد من رموزه، ولكن النظام يقاوم، يدفع بالبعض إلي السجون لاحتواء الرأي
العام، فالنظام دائما علي استعداد للتضحية ببعض الأصابع لإنقاذ الذراع، ولديه من
المرونة ما يمكّنه من الاستفادة حتي من أحلك الظروف، ومن ثم تجري الانتخابات في
أجواء تبدو للعامة كشكل من أشكال التطهير الذاتي للنظام، وهو ما يسفر عن تجديد
ولاية المحافظ لأربع سنوات أُخَر.
يقول المفكر والمؤرخ الأمريكي نعوم تشومسكي "في
مجتمعٍ حيث يُسمع صوت الشعب، علي مجموعات النخبة ضمان أن يقول ذلك الصوت الأشياء
الصحيحة. وبقدر ما تنحسر قدرة الدولة علي استعمال العنف في الدفاع عن مصالح
مجموعات النخبة التي تهيمن عليها (الدولة)، بقدر ما تزداد الضرورة لابتداع آليات
(هندسة الموافقة)"
عزيزي القارئ، هذا المقال لا يدعوك إلي المقاربة بين
الوضع في مصر وبين أحداثٍ خيالية في فيلم ما يحكي عن بلاد بعيدة. فلتترفق بكاتب هذه
السطور، ولا تظن به التحاذق عندما يطالعك العنوان "نهر يناير"، فما هو
إلا الترجمة العربية للكلمة البرتغالية "ريو دي جانيرو"، ولا تسمح لذلك
الاقتباس المنمق من إحدي الكتب الفلسفية سميكة الكعب، أن يفسد عليك بهجة العرس
الديمقراطي الذي تعيشه بلادنا هذه الأيام، فهذا المقال ما هو إلا محاولة للخروج علي
متلازمة (الفيلم الأجنبي = الفيلم الأمريكي)
--------------------------
مدونة سقراط | محمد عوض