Monday, January 25, 2010

ميت عساس

تصوير: سقراط


لم تكن تعلم أن القطار لن يتوقف بميت عساس، ولم تكن تدرك أنه بتلك الهيئة – التي لا تختلف كثيرا عن قطار ميت عساس- أنه قطار سياحي.

بينما كان السلم المتحرك يحملني وأحمالي إلي الأعلي، كانت تدور برأسي الوساوس عما إذا كنت سألحق بقطاري أم لا. وبوصولي إلي الأعلي، انتبهت كغيري على أصوات تنم عن مشاجرة. أمعنت النظر والسمع فإذا بأحد عمال المترو المنوط بهم مراقبة بوابات العبور من وإلي الأرصفة، فى زيه الرسمي سماوي اللون، ذلك اللون الذي يفترض فيه بعث الراحة في النفوس قبل العيون، ويقف إلي جواره أحد أمناء الشرطة، أو علي حد التعبير الشعبي "أبو طبنجة"، وفى مواجهتهما تقف فتاة لا تبدو عليها سوي علامات الضعف والاستكانة. تمكنت دون عناء أن أميز تلك الجملة الآثرة التي نطق بها العامل مهددًا الفتاة "يا تدفعي الغرامة يا نعمل لك محضر" والتي لم تجد من بد سوي استنفار كل ما تحمله ذاكرتها الصغيرة من أيمان مغلظة وغير مغلظة لتؤكد صدق نيتها وجهلها بالأعراف المتروية المقدسة، إلا أن محاولتها كانت أبعد ما تكون عن التأثير علي ذلك العامل سليل أقدم بيروقراطية عرفها التاريخ.

لم يكن لدي متسع من الوقت للفضول، جذبت أحمالي وعبرت البوابات أحث الخطي إلي محطة مصر علني ألحق بقطاري، إلا أن ذهني لم ينصرف عن تلك المسكينة التي رمي بها حظها العاثر فى مثل هذا الظرف الغابر، وصرت أتساءل عما سيكون مصيرها، هل سترضخ أمام تزمت العامل وتضطر لدفع غرامة تشفق جيوبها عن حملها؟ بالطبع ستفعل راغمة، وإلا ما السبيل لاتقاء عيون المارة، ولسان العامل السليط، وسلاح أبو طبنجة القابع على أحد جنبيه؟

وبينما أنا هائم بين مشاعري المختلطة التي جمعت بين الاشفاق على تلك المسكينة والخوف المشوب بالقلق من فقدان قطاري، إذا بالذكريات تتدافع حاملة أحد المشاهد التي يفصلني عنها ما يزيد على العام. كان الوقت ما بين المغرب والعشاء، عندما يرخي الليل سدوله ملتهما آخر خيوط النهار. كنت قد أخذت مكاني من بين المقاعد الكثيرة الخالية فى القطار الذي تحرك لتوه موليـًا محطة المنصورة دبره قاصدًا القاهرة، أطلقت نظري عبر نافذة القطار، تلك التي تعرض شريطـًا سينمائيـًا عملاقا، فى انتظار مشهدي الأثير عندما يعبر القطار جسر "طلخا" وتتبدي المنصورة مع السويعات الأولي من الليل، فى أبهي حـُللها، كأميرة تتهيأ لعُـرسها متخذةً من صفحة النيل مرآةً لها.

"تذكرتك يا أستاذ؟" قالها بآلية وانصرف بعد أن أظهرت له تذكرتي وباءت محاولته لتطويقي بالفشل، انتقل إلي المربع المقابل حيث جلست فتاة لم تتجاوز العشرين ربيعا، لاتبدو عليها ملامح السفر، تنزوي فى مقعدها مشبكة ذراعيها وكأنما تخشي شيئا مجهولا. سألها بنفس الآلية عن تذكرتها، طلبت منه تذكرة واحدة: "ميت عساس" قالتها بصوت لا يكاد يُسمع من فرط خفوته، تراجعت رأسه إلي الوراء من جراء التقاط كمًا لا بأس به من الهواء، وأخبرها دون أن يلتفت إليها أن هذا القطار سيتجاوز محطة ميت عساس وأن سمنود ستكون أول المحطات التى يتوقف بها، لذا سيتوجب عليها النزول بسمنود ثم اللحاق بقطار آخر يعود بها إلى ميت عساس، ولكن قبل ذلك عليها أن تدفع جنيهان ونصف الجنيه ثمن تذكرة واحدة إلى سمنود متضمنة "التطويقة" بالطبع، ثم أخذ يقلب صفحات دفتره الصغير وردية اللون إلى أن استقر على إحداها وأخذ يملاء الفراغات الموجودة بها دون أن يبدي أى اهتمام بالفتاة التي وقفت من فرط انزعاجها وألقت بنظرة متوترة على كل ما حولها فى محاولة لإدراك ما حاق بها، غير أن أكثر ما أزعجها هو ثمن التذكرة إلي سمنود التى زادت إلي الضعف، وعندما سألت عن السبب، أجابها وهو يقتطع صفحة الدفتر الصغيرة وببرود شديد: "علشان دي درجة سياحية" وأخيرًا رفع بصره إلى الفتاة الذاهلة مادًا يده بالصفحة الصغيرة بعد أن أتم مهمته على وجهها الأكمل. تراجعت الفتاة قيد خطوة إلي الخلف فى محاولة للإعلان عن رفضها لتلك اللحظة القاتمة، وتلك الصفحة الوردية، ولذلك القطار المنطلق لا يلوي علي شيء، وارتسمت علي صفحة وجهها شديد النضرة كل ما دار بخلدها ولم يجر علي لسانها. لم تكن تعلم أن القطار لن يتوقف بميت عساس، ولم تكن تدرك أنه بتلك الهيئة – التي لا تختلف كثيرا عن قطار ميت عساس- أنه قطار سياحي، ولكنها الان تعرف أنه قطار سياحي، وتعرف أن عليها أن تدفع ضعف ثمن التذكرة، وتعرف أيضا أن ما تحمله لا يفي بهذا الثمن. أخذت تتنقل بعينيها المتوترتين، تارة بين الصفحة الصغيرة بلونها الوردي الهاديء، وبين محصل التذاكر في زيه الازرق القاتم تارة أخري، وبينما هي كذلك اذا بها تلتفت فجأة إلي النافذة حيث تعلقت عيناها بتلك اللوحة الجدارية التي كتب عليها بحروف بارزة "ميت عساس". وعند تلك النقطة الزمنية قابلها، في الواقع، وصولي إلي مكتب الاستعلامات بمحطة مصر. سألته، وأنا ألهث من جراء الجري بكل تلك الأحمال، عما إذا كان قطار المنصورة قد انطلق أم لا، فنصحني، بعد أن أخبرني أن القطار قد تحرك بالفعل، أن ألحق بقطار الأسكندرية المتأهب للانطلاق علي رصيف عشرين.
ــــــــــــــــــــ
كتبها: محمد عـوض "سقراط"

Saturday, January 16, 2010

كتاب مالوش اسم

اللي في الصورة ده أحمد العسيلي .. أعرفه من زمان .. من أيام البرنامج بتاعه ع ((الاف ام)) اللي كان بيتذاع علي قناة مزيكا في نفس الوقت .. اللي لفت نظري ليه في الاول كانت خفة دمه، لكن بعد كده عجبتني دماغه قوي .. وبعد شوية انا انقطعت عن التلفزيون وعن ((الاف ام)) بحكم بداية دراستي في الجامعة، المهم بعد فترة كده تيجي 3 سنين شفت العسيلي تاني علي قناة (Otv) في البرنامج بتاعه "حبة عسيلي" وبدأت اتابع البرنامج بشغف شديد، والصراحة كان يستاهل .. كان وجبة دماغية جامدة جدا .. يعني م الاخر كانت بتعملي احلي دماغ .. والبرنامج كان عبارة عن مجموعة من الحلقات المنفصلة كل حلقة يتم طرح موضوع جديد في صورة سؤال تتفرع منه اسئلة اخري ويبتدي يدور علي اجابات الاسئلة دي عند الناس في الشارع ويناقش الاجابات دي مع الناس اللي قدام التلفزيون وينهي الحلقة بعد ما يكون ربط عقول كل الناس دي ببعض بالرغم من اختلاف خلفياتهم وثقافاتهم بدرجات متفاوتة ....
ومرة تانية انقطعت عني اخبار العسيلي بانتهاء عرض البرنامج او تصوير حلقات جديدة منه لغاية ما في مرة وانا بلفلف ع اليوتيوب صادفت فيديو مسجل من حلقة من برنامج البيت بيتك كان الضيف فيها احمد العسيلي بيتكلم عن كتابه الاول ((كتاب مالوش اسم)). وفي اقرب فرصة كنت فيها في دار الشروق شفت الكتاب .. قلبته بين اديا وهو جوه كيسه البلاستيك، وقريت الفقرة اللي مكتوبة علي ضهره وبدأت احس بالاحساس المنعش اللي كنت بحس بيه وانا بشوف البرنامج .. حاجة كده زي مايكون عقلي واكل نعناع "ححححححححححــ ..." لغاية ما وصلت لاخر جملة في الفقرة اللي مكتوبة علي ضهر الكتاب واللي بيقول فيها: "بس الاهم ، لانه السبب في كل ده .. اني علي طول بفكر.. بفكر.. بفكر" ومكتوب تحيتها ((احمد العسيلي)). رجعت الكتاب مكانه بعد ما بصيت علي سعره ولقيته معقول، وكنت مقرر اني مش هاشتريه دلوقتي .. يمكن لاني بحب كل حاجة تيجي في وقتها وكنت حاسس ساعتها ان الكتاب ده وقته لسه ماجاش او يمكن لاني ماكانش معايا فلوس كفاية ساعتها .. المهم، بعد فترة كنت في التحرير مع اصحابي وروحنا مكتبة دار الشروق .. دخلت رأسا علي المكان اللي فيه الكتاب .. مسكته بين اديا وانا مبسوط ان وقته جه، ولفت نظري ان الغلاف مكتوب عليه كلمتين زيادة عن المرة اللي فاتت، كان مكتوب عليه "الطبعة الرابعة" وعلي قد ما فرحت لان ده معناه ان ناس كتير اشتروا الكتاب، علي قد ما اتضايقت لما قلبت الكتاب علي ضهره وعرفت ان سعره زاد بأكتر من 25% عن سعر الطبعة الاولي .. وبمنتهي الهدوء رجعت الكتاب مكانه وخرجت من المكتبة واستنيت اصحابي بره لما يخرجوا.
وقعدت اقلب الموضوع في دماغي وأتساءل: ايه وجه الحكمة في تصرف زي ده؟ انا اعرف ان الكتاب لما يوصل للطبعة التانية والتالتة والرابعة ده معناه انه عليه اقبال .. ومعناه برضه ان الطلب عليه عالي وعلي حسب ما يراه الاقتصاد واعوانه ان في الحالة دي لازم السعر يعلي والعرض يقل، بس انا افهم ان ده يتعمل مع السلع؛ الشاي والسكر والبنزين لكن مش مع الكتب .. تكلفة الطبعة الاولي اكيد هي هي تكلفة الطبعة التانية والعاشرة فلما السعر يزيد من غير اي زيادة موازية في اسعار الحبر والورق وادوات الطباعة يبقي ده مالوش غير معني واحد ان دار الشروق ما هي الا مؤسسة رأسمالية احتكارية هدفها الاول والاوحد هو الربح ومالوش لازمة بقي انها تدعي انها بتقوم بأي دور ثقافي او اجتماعي او حتي انساني في مجتمعنا اللي بيتنشأ علي دور واحد من دول.




بالرجوع بقي لموضوعنا اللي خرجنا منه .. الكتاب .. الكتاب عبارة عن موضوعات مختلفة ومنفصلة الي حد ما بيناقشها العسيلي مع القاريء بنفس اسلوبه قدام كاميرا التلفزيون .. ومن اول صفحة في الكتاب بيوضح للقاريء كل حاجة وبيعرفه هو هايتعرض لايه في الصفحات اللي جاية وليه اختار اسلوب الكتابة ده بالذات.... الخ. ويمكن كل ده علشان يمهد له ان الكتاب ده بنسبة كبيرة جدا غير تقليدي .. وغير تقليدي دي مش معناها انه حاجة وحشة ولا حاجة حلوة .. لكن معناها انك لو كنت قاريء قديم هاتقدر تعرف من اول صفحة ان الكتاب بيخرج عن الشكل التقليدي وفي الوقت نفسه لا يتعارض معاه وبالتالي مش هاتلاقي عندك مشكلة انك تقرأه .. ولو كنت قاريء جديد او حتي مابتحبش القراية خالص هاتعرف برضه ان الكتاب مش تقليدي لانك مش هاتقابل المشاكل اللي بتقابلك مع الكتب التقليدية واللى بتخليك ما تحبش القراية عموما.
عنوان الكتاب ممكن يكون اشارة ذكية قوي لفكرة القراية .. لان زي ما قلنا ان كل اللي ما بيحبش القراية مش هايكون عنده مشكلة انه يقراه .. ولما هايقراه هايعرف انه محتاج يفكر في كل حاجة بتحصل حواليه، وهايعرف انه ناقصه حاجة مهمة جدا هي التفكير، وهايعرف كمان انه مابيحبش القراية لانه مابيحبش يفكر وان التفكير اهم خطوة لازم تيجي قبل القراية.
الكتاب مكتوب بالعامية المصرية، والعسيلي في اول الكتاب وضح وجهة نظره في اختيار الاسلوب او اللغة العامية لاكتر من سبب كان اخرهم واهمهم زي ما بيقول:
"المهم من غير رغي يعني قررت اني اكتب زي ما بفكر".
الكتاب ناقش موضوعات مختلفة ومتنوعة في صورة اسئلة وردت علي ذهن الكاتب، ومادة الكتاب كانت عبارة عن محاولته للاجابة علي الاسئلة دي .. مش بهدف انه يقدم مقترحات للاجابة دي، لكن بهدف اعادة طرح الاسئلة دي وغيرها والدعوة للتفكير فيها او الدعوة للتفكير عموما او زي ما بيقول العسيلي في بداية الكتاب:
"كثيرة هى علامات الاستفهام في الدنيا .. ونادرة جدا الاجابات .. والكتاب ده مش هايبقي فيه اجابات ولا حاجة، وحتي لو هايبقي فيه، هو مش مقصود منه الاجابات، المقصود الافكار والاسئلة وبس. ومش حيبقي فيه يقين .. حيرة وبس، اليقين الحمد لله عندنا علي قفا مين يشيل، بس هنا مش حتلاقوا .. اتمني انكو ماتلاقوش".
العسيلي بيحقق في الكتاب ده معادلة صعبة جدا من وجهة نظري بيقدم فكرة فلسفية معقدة جدا بطريقة سهلة جدا علي كل العقول، وخاصة العقول النابذة للتفكير بشكل عام، سواء بقي كان بدافع من الكسل او من البيئة الملوثة اللي بتتربي فيها عقولنا .. واعتقد ان وصول الكتاب للطبعة الرابعة معناه انه بشكل مبدئي نجح في تحقيق هدفه من المعادلة الصعبة دي.
انا ماشتريتش الكتاب لغاية دلوقتي .. بس جالي هدية في عيد ميلادي الاخير، ومن انسان مهم جدا في حياتي وبجد كانت من اجمل الهديا اللي جاتلي في حياتي بس ده ما يمنعش اني اشتري نسخة تانية بس يارب ألحق قبل الطبعة الخامسة.